كنت في بيروت فمللت صخبها وضوضاءها وأحسست أن قلبي جائع لا يشبعه إلا الجمال، ونفسي عطشى لا يرويها إلا الحب، وتمنيت أن أعيش يوماً في الجنة. . . وما أقرب الجنة من ساكني بيروت تلوح لهم من شرف السماء كما تلوح الفراديس لعيني العابد المتبتل. . . وتبدو لهم بذراها المكللة أبداً بالثلج رمزاً للصفاء والطهر، وهاماتها المرفوعة المشمخرة صورة للعظمة والمجد، وصخورها الهائلة التي تتلو على الدنيا سورة الخلود، وسفوحها الحالية بأشجار الصنوبر والسرو التي تصف الحياة الباسمة، والجمال الباقي، وقراها الضائعة في الضباب العطِر، وغاباتها السكرى بالنشيد الحلو، وشعابها ومساربها التي يمرح فيها الحور العين، والولدان المخلدون، آمنين في مثابة العشاق، وحمي المحبين، وأوديتها العميقة عمق السر في نفس الصب المدله بحب أن يذيعه ثم يضنَّ به فيختزنه في صدره، الرهيبة رهبة الأزلية عند أبناء هذا الوجود الفاني. . . الساحرة سحر المجهول الذي يحبه الناس بمقدار ما يخافونه!
وكانت الدنيا تخطر في حلل الربيع، وكانت الطبيعة في عرس، فخرجت مع فئة من تلاميذي نؤم دنيا الأحلام، وجنة المستعجل، وذهبنا نصعد في الجبل على غير ما طريق، بل لقد تنكبنا الطرق عمداً ونأينا عن السبل المسلوكة، والقرى العامرة، لنرى الطبيعة العذراء، ونبصر الجمال البكر، لا الذي ازدحم عليه الواردون، فلم نكن نبلغ الذروة بعد طول الجهد، ونحسب أننا قد وصلنا حتى تظهر لنا من ورائها ذرى وضهور فنعود إلى التسلق ظربين، والطبيعةُ، ويح الطبيعة، تعرض علينا من فتونها ألواناً، وتغرينا بالحب ما وسعها الأغراء، فلم تلبث أن أيقظت في نفوسنا بنات الهوى، وشياطين الغرام، فإذا نحن نفتش في أثناء نفوسنا عن ذكرى حب قديم، أو أمل بحب جديد. . . وإذا نحن نحس بهذه العاطفة المبهمة التي يبعثها الجمال في النفوس الشاعرة، فنزهد في المال والجاه والمجد، ولا نطلب من الحياة إلا خلوة هادئة على صخرة من هذه الصخور. نقضي فيها العمر كله مع من نحب في قبلة واحدة. . . وهل يتسع عمر الإنسان (ليت شعري) لأكثر من قبلة