سعيد ذلك الذي يجد صديقاً يلائمه منه قلبه وروحه. صديق يجمعه به حدة وذوق، وألفة وعاطفة، وجامعة معرفة. صديق لا يقلقه طمع ولا تسيره مصلحة. صديق يؤثر ظل شجرة على ترف مدينة. سعيد من يملك صديقاً!
كان لي صديق أحتضره الموت مني في عنفوان صباه، ومطلع عمله في العهد الذي أصبحت صداقته حاجة لقلبي شديدة. كنا نتآزر معاً على أعمال الحرب، ولم يكن لنا إلا غليون واحد نتناوبه وكأس واحدة نشرب بها، وسقف خيمة واحدة يظللنا. في الظروف التعسة كان لنا ذلك السقف حيث كنا نحيا معاً وطناً جديداً. رأيته ينجو من كل مهالك الحرب ويسلم من أهوالها كأنما الموت كان يدخر أحدنا للأخر، وكأنما نفذت نباله التي صوبها إليه دون أن تصيبه. ولكن هذا لم يكن إلا ليجعل فقده - عندي - أكثر ترويعاً. ولقد كان في قعقعة السلاح والذهول الذي يملك النفس من جراء الأخطار ما يحول دون بلوغ آلام نزعه إلى عاطفتي وإحساسي. وموته قد يكون نفعاً لوطنه وشؤماً على أعدائه. لو كان ذلك لكان أسفي عليه قليلاً، ولكني فقدته في وسط المسرات ورأيته يحتضر بين ذراعي في حين كانت تقوى صحته وتتوثق روابط مودتنا في أيام الراحة والسكون.
آه إنني لن أتعزى عن فقده، وإن ذكراه لا تبرح قلبي ولا تحيا إلا في طواياه. وإنها لن تكون في اللذين كانوا يحيطون به أو اللذين حلوا محله، هذه الفكرة تجعل وقع فقده أنأى على النفس وآلم للقلب. وهذه الطبيعة التي تتراءى لنا خلية لا تبالي حظ الناس تضع رداء ربيعها الزاهي وتتزين بأبهى حلل جمالها حول المقبرة التي يستريح جثمانه فيها. فالأشجار مورقة متشابكة الأغصان، تشدو العصافير تحت ظلالها، وللذباب الربعي أغاريد على أزهارها. كل شيء يتنفس فرحاً وحياة في مساكن الموتى، وفي المساء، حين يلمع القمر في السماء، وأنا أتأمل هذا المثوى الكئيب أسمع الصرصور يوالي بطرب إنشاد (أغنيته)