الترابط بين الأمم والشعوب ضرورة اجتماعية، تقتضيها طبيعة الوجود، والرغبة في التعاون والمنفعة. وإن الأمم لتأخذ لهذا الترابط بأسباب مختلفة، وتقيمه على اعتبارات متباينة؛ فهي مرة تقيمه على الأغراض المشتركة، والآمال المتفقة، والمذاهب المتماثلة؛ ومرة تدعو له باسم الوشائج الجنسية، والروابط العصبية؛ ومرة تَشْرعه بدعوى العلم والحضارة والصالح العام؛ وفي هذا العصر يتخذه القوم وسيلة لسد المطامع، والجشع الاستعماري، وفرض السلطان على الشعوب الضعيفة؛ وهم في كل هذا يوثقون له بالمعاهدات والمحالفات والمشارطات والمؤتمرات تقام ثم تنفض، وقد ملأ القوم الدنيا بالخطب الرنانة، والوعود الخلابة، والرغبات التي ظاهرها الرحمة للإنسانية، وباطنها الويل كل الويل للإنسانية.
وكل هذا باطل في منطق الحق، وكذب على طبيعة الوجود، وإن صح في خسيس من المذاهب رجس كما يقول أمير الشعراء. وإن التاريخ ليخبرنا بوقائعه وتجاريبه بأنه ما وثق بين الأمم والشعوب مثل تبادل العواطف، وما وثق في تبادل العواطف مثل المصاهرة: تلك الفضيلة الاجتماعية التي جعلها الشرع الإسلامي صلة من صلات المودة والألفة والاتحاد، وأنزلها منزلة القرابة العصبية واللحمة في النسب، فقد حرم على الشخص أن يتزوج بأم زوجته أو بأنثى من فروعها وأصولها. كما حرم عليه أن يتزوج بأمه أو بأنثى من أصول نفسه وفروعه، وكذلك حرم على زوجته الاقتران بأحد من أصوله أو فروعه، فكأنما أنزل الله كلاًّ من الزوجين منزلة نفس الآخر حتى أنزل فروع كل منهما وأصوله بالنسبة إلى الآخر منزلة أصول نفسه وفروعه. وهذا برهان يقيمه لنا الشرع الحكيم على أن الاتصال بطريق المصاهرة مساو لنفس القرابة النسبية في الأحكام والحقوق والألفة والاحترام.
على هذا الاعتبار القويم تتخذ الأمم الرشيدة من المصاهرة رابطة مودة، وواسطة سياسية، وعلاقة تامة يكون بها التعاون والرغبة في الإفادة والخير؛ بل على هذا الاعتبار جرت عوائد الأمم في الأزمنة الغابرة، فكانت القبائل والعشائر تتصاهر إذا أرادت أن تدخل في ميثاق يكون به المعونة على دفع الشر وجلب الخير؛ ولو أن دماء سفكت بين قبيلتين،