أوشك الفجر أن يطلع، وتصايحت الديكة إيذاناً بطلائع النور، فأخلدت الحجرة إلى السكون والصمت، كأنما أسلمها أنين المرض الموجع وتأوه الإشفاق الأليم إلى الهمود. كانت ترقد على الفراش امرأة شابة يبدو من اصفرار وجهها وذبول خديها وشفتيها وتضعضع كيانها أنها تعاني وبال مرض يهتصر شبابها. وعلى فراش قريب رقد شاب في مقتبل العمر يثقل جفنيه السهاد، ويأبى القلق أن تلتقي أهدابهما، يطالع وجه المريضة في حزن ثم يعطف رأسه إلى مهد جديد فيجري الحنان في عينيه الذابلتين ويتمتم في رجاء صادق:(اللهم صن حياة الأم المسكينة. . . وطفلتنا البريئة). وكان الشاب من ذوي القلوب الرقيقة والنفوس الندية بالرحمة والعطف. وكان على عهد صباه يلذ لرفاقه أن يدعوه رجل البيت، لما طبع عليه من النفور من المجتمعات والأندية، والاشتراك في المظاهرات التي تستهوي أفئدة أقرانه، والانجذاب نحو البيت بسبب وبغير سبب؛ فكان يقضي نهاره في الحديقة يسقي أشجار البرتقال والليمون، أو في السطح بين الدجاج والحمام؛ فإذا كان الخميس أعطى ذراعه لشقيقته ومضيا معاً إلى السينما. ولذلك أخذ يفكر في الزواج تفكيراً جدياً منذ اليوم الذي عين فيه مهندساً بمصلحة الأشغال العسكرية. وراح يقصد من مرتبه ما يقوم بنفقات الزواج من هر وشبكة وهدايا وفرح، كما كان يفعل شباب الجيل الماضي. فلم يكن يمضي عليه عامان خارج المدرسة حتى تزوج، ولم يدهش أحداً أن تنعطف هكذا سريعاً إلى الزواج هذه النفس المطمئنة إلى الحياة البيتية منذ نعومة الصبا، ولكنه كان سيئ الحظ، فما كاد يستدير عام ويستقبل طفلة حتى أصيبت زوجه بحمى النفاس فزلزل بيته الهادئ المطمئن وارتجت حياته السعيدة. وقد عرف منذ اليوم الأول للمرض ما الخوف وما الإشفاق وما الجزع، واندفع إلى استدعاء أعظم الأخصائيين من الأطباء حملة الباشوية والبيكوية غير مبق على مال أو ضان بثمين، حتى اضطر إلى بيع المذياع وساعته الذهبية، ولو طلب إليه أن ينقل دمه إليها لأداء إلى آخر قطرة. . . وبالغ في ذلك، فطلب من مصلحته إجازة كي لا يفارق المريضة، وكان يرقب أعين الفاحصين من الأطباء