كان لي مع هذه الليلة تواريخ في القاهرة وباريس، تواريخ أبدعها الجو الطروب أو الجو العبوس، فقد كان يتفق في أحيان كثيرة أن تحمل ليلة الميلاد أكداراً ومنغصات، لأن الغالب في البيوت الفرنسية أن يكون الزوجان عاشقين، وأن تكون نيران الغيرة مما يشب في ليلة العيد حول (شجرة الميلاد)، وما أسعد من يعيش وهو معذب بلواذع الوجدان!
ما أذكر مرة أن تلك الليلة مضت بدون عواصف، إلا أن تكون في بيوت فرغ أهلها من مصارعة الأهواء، وهي فيما عدا ذلك ليلة متاعب وكروب
وهذه الظاهرة هي سر جمال هذه الليلة، فاصطراع العواطف ميلادٌ جديد، وقد يفعل فعل السحر في إحياء المشاعر والقلوب
كنت أقضي هذه الليلة في بيوت أعرف من أحوالها أشياء، فكنت أفهم الرموز والتلاميح، وكنت أجد التفاسير لبعض دقائق الأدب الفرنسي، وهو أدبٌ قام على أساس الفهم للسريرة الإنسانية، وسيعيش إلى أزمان وأزمان، ما دام في الدنيا ناس يحبون الأدب الصادق الصريح
ثم جاءت هذه الحرب فقضت في مصير فرنسا بما قضيت، ولم يبق لأصدقائي الفرنسيين من زاد غير الحزن الوجيع، فأنا لا أزورهم في ليلة الميلاد كما كنت أصنع، ولا ألقاهم إلا في الحين بعد الحين، فهناك أحزان تؤرثها المؤاساة وتزيدها اشتعالاً إلى اشتعال
وهنا أذكر أني عرفت أخيراً أن سقوط باريس لم يحزن أهل باريس بقدر ما نتصور، ولم يشعرهم بمعاني الامتهان. وتفسير ذلك عند الأستاذ توفيق وهبة أنهم قوم تعودوا الهزائم والانتصارات، ولم تكن الدنيا في أنظارهم غير مواسم للانخفاض والارتفاع
ولكني مع هذا أقرر أن حال الفرنسيين المقيمين بمصر يختلف عن حال مواطنيهم هناك، لأن المغترب يتعلق بوطنه تعلقاً لا يحسه المقيم، وقد تأكد عندي هذا المعنى في الأعوام التي قضيتها في باريس وفي بغداد، فقد كان الخبر السيئ يؤرق نومي مهما صغر وهان، وكان أي حرف يكتب ضد مصر يؤذيني، فأرد عليه في الحال
أكتب هذه السطور في ليلة الميلاد، وفي خيالي بيوت عزيزة كنت أحب أن أراها وكانت