للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[مقالات في كلمات]

للأستاذ علي الطنطاوي

المذهب الرمزي كما أفهمه:

يقف الشاعر على الطريق فتمر به مائة امرأة، ما فيهن إلا جميلة فتانَة تستهوي القلب وتستميل الفؤاد، وما واحدة منهن تشبه في جمالها الأخرى، فلكل (جمال) طعم في الذوق، وأثر في النفس، ومعنى في الحسّ. ويسمع مائة صوت ما فيها إلا مطرب يهز ويثير، ولكنّ للبيات (طرباً) ليس للرصد، وفي الصبا ما ليس في النهاوند. ويشمّ عشر زهرات فلا يجد فيهن إلا طيباً وعطراً، ولكن أثر الياسمين في النفس غير أثر الورد، وفي الزنبق ما ليس في البنفسج؛ وربما رأى المرأة أو سمع النغمة في حال، فأثارت في نفسه عواطف لا تثيرها في حال أخرى، فإذا جاء يصورها بالألفاظ هذا العالم الزاخر من (المشاعر) والخواطر لم يجد لهذه الآلاف المؤلفة، من (المشاعر) المختلفة، والخواطر المتباينة، إلا ألفاظاً قليلة لا تقوم لهذه الكثرة، ضيقة لا تتسع لشيء من هذه التفاصيل، ميتة لا تستطيع أن تجاري هذه القافلة الحية المتوثبة من الخواطر والأحلام الإنسانية. . .

ويقرأ القصة من القصص، أو الأبيات من الشعر، فتنقله إلى دنيا أخرى يرى فيها ما لا تراه عيون أكثر الناس، ويدرك من جمالها وسحرها ما لا تدركه قلوبهم، فإذا عمد إلى حصر هذه الدنيا في نطاق من الألفاظ تفلتت منه ومضت، كما يمضي عبق الزهر إذ ينبثّ في الجو، وهبط من بعدها إلى أرض الحقيقة الصلدة، كما هبط آدم من جنته إلى الأرض. . .

ويسمع الأغنية الحالمة تخرج من قلب عاشق مشوق، فتطفو على وجه النسيم العليل، في الليل الساجي، ينادي بها الليل، والليل معرض لا يجيب، فتَهز الأغنية إذ يسمعها (شاعريته) فتسقط أنضج ثمارها وأحلاها؛ فإذا راح يجمعها ليودعها ظروف الألفاظ، طارت من بين أصابعه كأنها حباب الخمر، أو خيوط النور. . .

ويحلم نائماً أو مستيقظاً فيجد لهذه الرؤى والأحلام متعة وجمالا يملأ جوانب نفسه، ويصل إلى قرارة قلبه، ويصحو منها ولذتها في حسّه، وأثرها في نفسه، وبقاياها في ذاكرته، فإذا أراد أن يضع وصفها على لسانه، خانته الألفاظ ساعة الشدة، وفرّت منه ولم تسعفه. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>