للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فماذا يصنع الشاعر؟

أيقنع من الشعر بوصف الحالات النفسية الواضحة الدانية، ويدع كل سامٍ منها رفيع، أو غامض معقد؛ وتصوير مشاهد الطبيعة الجامدة دون أن يفيض عليها أفكاره وأحلامه وذكرياته؟ إنه إن فعل كان كمن يأخذ الأصداف والديدان من شاطئ البحر مجتزئاً بها عن كل ما في البحر من لآلئ وأسماك، فماذا يصنع؟

فكر في ذلك ناس من شعراء أوربة فرأوا أن الخصلة من شعر الحبيب، تذكر المحب بأيام الغرام، وتتلو عليه وهي خرساء لا تنطق تفاصيل أحداثها حتى كأنه قد رجع إليها؛ والنشيد الحربي يقص على الجندي الهرم أنباء معاركه التي خاضها؛ وصورة برج إيفل يعيد للباريسي النازح ذكريات بلده الذي فارقه، وما خصلة من الشعر وما النشيد وما الصورة؟ إنها رمز تستدعي في الذهن صوراً وحقائق على طريق (تداعي الأفكار) كما تذكر صورة الكعبة بالحج، و (جون بول) بإنكلترا، والأهرام بمصر. . . فلماذا لا نرمز لكل حالة نفسية غامضة برمز يذكر القارئ بحالة مثلهاكان وجدها، اعتماداً على (تداعي الأفكار) وعلى أن نفوس البشر متشابهات في الجملة في حالاتها الكبرى؟

وقد حاولوا أن يفعلوا ذلك فنشأ ما ندعوه بالمذهب الرمزي فليس الشعر عند الرمزيين أن تصف الحبيب بل ما يثير في نفسك الحبيب من عواطف، ولا أن تصور مشهد الطبيعة بل ما يبعث المشهد فيك من خواطر. وإذا كانت هذه العواطف والخواطر غامضة، فليكن الشعر غامضاً مثلها، على أن يثير في السامع أمثالها، ويحضر له نظائرها. وأول شرط للشعر عندهم هو أن يكون وقعه في الأذن جميلا بارعاً، وأن يكون لألفاظه رنين اللحن الموسيقي. والشرط الثاني هو أن يعلو بسامعه، ويحمله إلى أسمى الحالات النفسية. قال عميد الرمزيين بول فرلين (الشعر ما انبعث من قرارة النفس، ورفَع إلى ذروة السماء، وكان موسيقياً قبل كل شيء).

وهذي غاية ما نظر إلى أبعد منها أديب، ولكن هل بلغ الأدباء الرمزيون هذه الغاية؟

الجواب: لا، وإن نهاية ما وصلوا إليه أن جاءوا بشعر في ألفاظه موسيقية وجمال، يلوح من ورائها معنى فيه من (تلك) الحالات النفسية غموضها، ولكن ليس فيه سموّها ولا عظمتها، ولا يدني منها ولا يوصل القارئ إليها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>