إني أرى أن رقي كل أمة لا يقاس بما فيها من مسببات الرفاهية والثروة أو معدات القتال إذا كان احترام حدود الحق والواجب غير شائع بين أبنائها. فإنها إذا فقدت هذا الاحترام فقدت العروة الوثقى التي تعتصم بها للمحافظة على مسببات الثروة والرفاهية وللانتفاع بمعدات القتال والدفاع. وإذا عرضنا حياة الأمم وتاريخها الاجتماعي وجدنا أن مسببات الثروة لا تلبث أن تزول إذا كان نظامها الاقتصادي غير مؤسس على احترام حدود الحق والواجب. إنها قد تزدهر فيها الثروة حيناً، وقد يؤجل لها الخراب المحتوم زمناً ربما طال، وربما يغرها طول هذا الزمن الذي تستمر فيه رفاهيتها وثروتها بالرغم من ضياع احترام أبنائها لحدود الحق والواجب؛ وما طول تأجيل خرابها إلا لما يزال فيها من العناصر الصالحة والقوة المدخرة من عهد الماضي الصالح، كالقوة التي تدفع المرء إذا نزل من سيارة سائرة فيسير هو أيضاً بعد نزوله منها؛ وقد تكون خطوات سيره قليلة أو كثيرة، ولكنه إنما يسير إلى الأمام مدفوعاً لا مختاراً. وكذلك الأمة التي تنزل عن احترام حدود الحق والواجب إذا تقدمت فإنما يكون سيرها سيراً آلياً لا فضل لها فيه، ولا يلبث أن ينتهي، إلا إذا أدركتها أسباب جديدة تدعوا إلى استمرار سيرها. وينبغي ألا نستبطئ أو نستعجل انتهاء تقدم مثل تلك الأمة التي فقد أبناؤها احترام حدود الحق والواجب، فإن خطوات الأمم أطول مدى من خطوات المرء الذي ينزل من سيارة سائرة؛ وقد تستجد أمور تزيد خطوات سيرها إلى حين، وكلما كانت السيارة التي ينزل المرء منها أسرع في سيرها كانت خطوات المرء الذي ينزل منها أكثر.
وهذه الظاهرة تشاهد في أمور مختلفة من أمور الأمم، فهي إذا فقدت احترام حدود الحق والواجب لم يكن الخراب مقصوراً على حالتها الاقتصادية، بل هو يشمل أيضاً خراب الأسرة وخراب التعليم وخراب كل شيء. وكثيراً ما نرى في التاريخ جيوشاً أقل عدداً وعدة تهزم جيوشاً أكثر عدداً وعدة من جيوش أمة فقد أبناؤها احترام حدود الحق والواجب. وهذا لا ينفي انتصار الفريق الأكثر عدداً وعدة إذا ظفر الفريقان المتحاربان