ولكن القارئ غير الملم بحقيقة الأمر ربما يظن أن انتصار جيوش الدول الأوربية على جيوش الدول الشرقية كان دائماً بسبب كثرة حظ الجيوش الأوربية من عدد القتال وآلاته الحديثة. نعم إن الأمر كان كذلك في معارك كثيرة، ولكنه لم يكن دائماً على هذه الحال. ففي واقعة بلاسي في الهند كان جيش سراج الدولة أكثر عدداً وعدة، وكان قد اشترى من الفرنسيين مدافع وأسلحة كثيرة، ولكنه - بالرغم من ذلك كله - دارت عليه الدائرة
وفقدان احترام حدود الحق والواجب يفسد أيضاً أداة الحكومة وأداة التعليم، ويفسد صلات أعضاء الأسرة الواحدة كما يوقع بين الأسرة والأسرة؛ وهذا الفساد وهذا الخراب لاشك من مظاهر التدهور مهما كان في الأمة من مسببات الثروة أو مظاهر الحضارة والتفكير والأدب. فمن المعروف في التاريخ أن مظاهر الحضارة والتفكير والأدب والفنون قد تزدهر حتى والأمة على حافة التدهور؛ وقد تستمر وهي آخذة في التدهور فنحسب هذه المظاهر نضوجاً، وإن كانت نضوجاً فهي نضوج العطن العفن كالفاكهة التي تعطن من كثرة النضج
ولقد كانت في أواخر مراحل الدول الإغريقية والرومانية والفارسية والعربية مظاهر كثيرة من مظاهر الحضارة والأدب والفنون حتى بعد أن أخذت في التدهور
ولاشك أن فقدان احترام أبناء الأمة لحدود الحق والواجب يفسد عليهم مظاهر الحضارة والتفكير والأدب، ولكن هذا الفساد قد يعمل في السر عمل السوس ولا يظهر في أعظم أشكاله خطراً إلا في النهاية. وفي بعض الأحايين لا يحترس أبناء الأمة ولا يأخذون الحيطة والحذر لمنع أسباب التدهور اغتراراً منهم بكثرة المدارس، وأنواع التعليم، وكثرة الصناعات، ورواج التجارة وانتشار التفكير، وكثرة المؤلفات والمؤلفين، وازدياد الأرض المزروعة، وغير ذلك من مظاهر الحضارة ككثرة المباني الشاهقة الحديثة، والشوارع المنتظمة، والميادين الفسيحة، والسيارات الفخمة، ومهيئات الراحة والرفاهية، ودواعي الاطمئنان وما يجلب اللذة والسرور. . .
فإذا تنبه أحدهم إلى أمر ضروري وهو احترام حدود الحق والواجب وافتقده ولم يجده في النفوس بالرغم من كثرة المدارس والسيارات والعمارات والمنشآت وغيرها من وسائل