(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل
بلاء الأنبياء)
للأستاذ محمود الخفيف
- ٣ -
ولكن حلاوة الجهاد ما لبثت أن أنسته مرارة الغربة، وإن النفوس الكبيرة لتتعزى بنبل غاياتها فيهما يصيبها في سبيل تلك الغايات، فتستعزب الألم وهو مر، ويحلو لها في سبيل النصر الجلاد؛ ويراد بها أن تذل فما يكسبها الإذلال إلا إباء الأبطال وحفاظ أولى القوة من الرجال؛ وما يزيدها العذاب والنكال إلا إصراراً على النضال وإمعاناً في الاستبسال، ولن تحول بينها وبين غايتها قوة حتى الموت، فإنها إن تزهق فقد تم لها بالاستشهاد أروع مواقف الجهاد. . .
ولقد كان مازيني من أولئك البواسل الميامين الذين تبعث الشدائد كامن قواتهم، وتوقظ المحن نوازع نفوسهم، حتى لكأن الشدائد والمحن من مستلزمات ذواتهم ومقومات أخلاقهم.
استقر مازيني في منفاه يتدبر فيما كان يعتلج في نفسه، وأخذ يتساءل ماذا بقي في بلاده من أثر الثورة التي هبت في فرنسا؟ لقد أحزنه قبل نفيه أن يرى فرنسا تطلق يد مترنيخ في إيطاليا فيبطش بها في سنة ١٨٣١ كما بطشت بها في سنة ١٨٢٠، ويقضي في غير هوادة على ما انبعث من مظاهر العصيان في مودينا وبارما والولايات البابوية، وقد حزر ذلك الوزير النمسوي الملك الجديد الذي تربع على عرش فرنسا من أن يظهر أي عطف على مثل هاتيك الحركات الشعبية التي من شأنها أن تزلزل العروش إذا أطلق لها العنان، وأمن على هذا الرأي ذلك الملك الذي جعل المحافظة على عرشه قاعدة حكمه، وذاق الثوار في إيطاليا مرارة الخيبة والخذلان مرة ثانية.
أليس ذلك ما كان يخشاه مازيني؟ ألم يعب على الكاربوناري اعتمادهم على غيرهم؟ هاهي ذي الأيام تأتي مصدقة لما رأى، وإذاً فليس لإيطاليا بعد اليوم إذا أرادت النجاح أن تسير