كتب الله النصر للمسلمين في غزوة (بدر الكبرى)؛ وكان نصراً رائعاً للدعوة الإسلامية، فأنصرف المشركون وفي كل عضو من أعضائهم جراحة من أثر بدر، وفي كل بيت من بيوتهم مناحة لفقد عزيز من أعزائهم يوم بدر؛ وقد تبرأ هذه الكلوم، وتهدأ هذه المناحات، ولكن المضض كامن في صدور كأنها الدروع المنطوية في النار.
- ألا يعود يوم كيوم بدر نثأر فيه لشرفائنا، ونلوك أكباد أعدائنا! إنه إن يعد - وهبل - نشف منهم النفوس أو تضمنا الرموس. . . . . . . . . .
والمسلمون خلال ذلك تخفق ألوية النصر عليهم، وأصحاب بدر يخطرون طربين بما أوتوا، يجلسون حلقات، هذا يتحدث عن بلائه، وذلك عن بطشه بأحد رؤوس قريش، وقد يسمع النبي لحديث من أحاديثهم فيغلب الإشفاق على قلبه ويود لو أن دماء قومه لم تهدر، ولكن الدعوة تفتقر إلى ضحايا! وقد يغادر المتحدثون هذه الأصناف من الحديث، لا لأن بدراً يفرغ حديثها. . . وإنما يعودون إلى التحدث بينهم: كيف ألقى الله الرعب في قلوب أعدائهم، وثبت منهم الأقدام، وزلزل أقدامهم، ويشكرون الله على صدق وعده لهم، فما أخف نفوس هؤلاء البدريين الذين قاتلت جنود الله معهم! ويكفي أحدهم إذا أراد أن يفتخر أن يقول:(أنا بدري)! وما أشد أسى الذين لم يكتب لهم أن يكونوا من جنود هذه الغزوة المباركة!
كيف يمشي هؤلاء الذين لم يحضروا غزوة بدر، وكيف تطمئن لهم جنوب أو تسكن قلوب، وقد رأوا أن رفاقهم سبقوا بالأجر: أجر بدر؟ وكيف يخالطون أصحابهم الغزاة، وكيف يكلمون الرسول، وهم يرون في أنفسهم منقصة تؤخرهم عن مجالس هؤلاء الغزاة، إنهم ليسوا ببدريين!
حاور أنس بن النضر نفسه فلم يقنعه منها عذر؛ فآثر أن يتوارى عن قومه، وأن يعتزل مجالسهم، مقسما أنه لن يغفر هذه الحوبة لنفسه حتى يلاقي غزوة كغزوة بدر، يحملها ما لم تحمل، ويحمل منها فوق ما حمل أصحابه، فإذا سمع (ببدر) رأيت وجهه اكتأب وأساريره