كانت الجمال تميس ميساناً هادئاً، تحمل الخليفة الرشيد إلى الحج. وكان لابد لها، وقد بلغت البصرة، من الوقوف بها ليتمتع الركب بما فيها من جمال وجلال؛ فقد كانت هادئة انيقة، تستفيق على همس النخيل كأنه وسوسة القبل، وتنام على دغدغات دجلة كأنها مناغاة ألام، وزغردة الوليد. وكان أهلها، إلى ذلك، من أكثر الناس اقتناء للعاج والديباج، وكان نساؤها مشهورات بالدلال، وبيوتها ضاحكات بالفضة باسمات بالذهب. . . ونهرها يفيض متدفقاً صخوباً يتساقط في أوله الرطب، ويتمايل على حفافيه النخيل والقصب.
ونزل الخليفة، ومعه جعفر بن يحيى، ووراءهما حاشية عريضة من الملهين والمغنين والزهاد.
ولم ير الرشيد أن يتحول عن هذه المدينة قبل أن يعلم أحوال الناس فيها؛ فدفع جعفراً إلى الطواف بها، ليتحسس اخبارها ثم يعود فيخبره بما سمع وبما رأى.
فلما عاد عشية ذلك اليوم قال له الرشيد:(إيه يا جعفر! حدثني بعجيب ما رأيت. . .)
قال جعفر: (لقد طوفت في المدينة يا أمير المؤمنين، فسمعت من ناسها ما يشكون وما يرغبون. وكنت اعلم كل شيء من غير عناء لتنكري. فلما كنت في إحدى الأسواق، اقبل علي نخاس يبيع الجواري والقيان، وهمس في أذني أن لديه جارية مغنية تباع، وأن مولاها ممتنع من عرضها إلا في داره؛ فتطلعت نفسي إلى معرفة أمرها، وتاقت لرؤيتها، فمضيت معه. . . حتى وقف عند باب شاهق يدل على نعمة وثراء، فطرقه؛ وإذا شاب حسن الوجه، دقيق العود، عليه قميص ممزق، يفتح لنا. فدخلنا إلى دهليز طويل مظلم. . . وانتهينا إلى دار واسعة خراب. فاخرج لنا الفتى من غرفة قطعة متآكلة من حصير، ففرشها لنا، وجلسنا عليها، ثم مضى ليحضر المغنية، فأخذت أفكر في أمر هذه الجارية، وتساءلت لم تعيش في هذه الخرائب؟ ومن تكون. . .؟ وما شأن هذا الفتى معها؟. . . وإذا بها تخرج علينا، زهراء غيداء، وعليها القميص الممزق الذي كان يلبسه الفتى منذ لحظات. فرايتها صبيحة الوجه، مياسة القد، حلوة العينين، ناهدة الثديين، وأدهشتني ببراعة جمالها ونضارة