قضى ابن خلدون في مصر ثلاثة وعشرين عاما (٧٨٤ - ٨٠٨ هـ) ولكنها كانت بين مراحل حياته أقلها حوادث وأقلها إنتاجا.
فأما عن الحوادث فان الحياة السياسية العاصفة التي عاشها ابن خلدون بالمغرب، والتي جاز خلالها معتركا شاسعا من المغامرات والدسائس الخطرة، وعانى كثيراً من الخطوب والمحن، كما نعم مراراً بمراتب النفوذ والسلطان، والتي هي في الواقع صفحة قوية شائقة في تاريخ المغرب في أواسط القرن الثامن: هذه الحياة المضطرمة العاصفة، استبدلها المؤرخ في مصر بحياة أكثر هدوءا ودعة. وفي مصر يعيش ابن خلدون شخصية عادية لا علاقة لها بشئون الدولة العليا، بعد أن لبثت بالمغرب ربع قرن روح هذه الشئون، يتجرد من ثوب السياسي المغامر ليتشح بثوب العالم المقتدر، وليستوحي نفوذه المحدود من هذه الناحية. على أن المؤرخ لقى في هذه الفترة حادثين من أهم حوادث حياته، هما فقد أسرته. ولقاؤه للفاتح التتري تيمورلنك.
وأما عن الإنتاج، فقد رأينا أن المؤرخ حقق أعظم أعمال حياته، أعني كتابة تاريخه الضخم ومقدمته الرائعة قبل مقدمه إلى مصر. ولا نعرف أن ابن خلدون وضع أثناء مقامه بمصر مؤلفاً جديداً. غير أن الذي لا ريب فيه هو أن وجوده بمصر على مقربة من المكاتيب والمراجع الشاسعة قد أتاح له فرصة التنقيح والتهذيب في التاريخ والمقدمة، خصوصا فيما تعلق فيهما بمصر والشرق، كذا استمر المؤرخ في كتابة ترجمة حياته أثناء إقامته بمصر، واستمر فيها إلى قبيل وفاته، وضمنها فصولا جديدة عن خواص دول المماليك المصرية، ونشأة التتار مما أشرنا إليه في موضعه. وكتب أثناء مقامه بالشام وصفاً لبلاد المغرب ورفعه إلى تيمورلنك كما قدمنا. كذلك لا ريب في أن ابن خلدون كان يعنى في دروسه ومجالسه ببث مذاهبه وآرائه الاجتماعية وشرحها.
غير أن ابن خلدون لم يستطع على ما يظهر أن ينشئ له بمصر مدرسة حقيقية، يطبعها