كنت عائداً من جولةٍ في قرى (البقاع) حين قرأت كلمة الأستاذ الفاضل محمود محمد شاكر في العدد (١٦٧) من الرسالة الغراء، التي كتبها رداً على حاشية بحثنا في دين المتنبي المنشور في العددين (١٦١، ١٦٢) من المجلة المذكورة.
وكانت قراءتي لرده، بعد عشرة أيام من صدوره. فإذا تأخرت في التعليق عليه فهذا عذري أبسطه للقراء الكرام؛ وأنا عوذ بالله من الغرور والذهاب بالنفس ومن الجهل بمقدارها والمكابرة في العلم والعصبية للرأي والهوى، فما يزال الناس - ولله الحمد - يقيسون فضل المرء بخضوعه للحق وإتقانه لعمله لا بدعواه وتبجحه؛ وقد ولى زمن كان فيه الولوع بالأغراب والإتيان بالجديد - ولو تافهاً - سبيلاً إلى الشهرة وذيوع الصيت وأقبل زمان فيه للتفكير حرمة وللعقل وزن، وكفى فيه المؤلفون مؤونة الثناء على النفس والتحدث إلى القراء بمزايا آثارهم وما تفردت به من معجزات.
وهؤلاء ذوو البصيرة من القراء يقلّبون ما يطالعون كل مُقلّب؛ يقع إليهم الكتاب فيمحصونه ويفلونه ويتدبرون ما فيه حتى تنكشف لهم منه مواطن الحسن والقبح، ويلمسون فيه آثار العجلة كما يلمسون مواضع التؤدة والروية.
وفي هذا ما كاد يصرفني عن الرد، سيراً على قاعدتي في ألا أحفل نقداً ولا رداً إذا كان حقاً؛ وسبيلي حينئذ أن آخذ نفسي به وأشكر لصاحبه، وإلا فإن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس فيمكث في الأرض. وخروجي اليوم على قاعدتي إنما كن لمنزلة الكاتب الفاضل لا لما في الرد نفسه. وليس في الأمر كل ما ظنه الأستاذ شاكر: فلا إثارة ولا إغراء ولا سلاح ولا استعداد لمعارك؛ إنما هي حاشية على كلام له المحل الثاني من بحثي، لم أرد بها نقد كتاب ولا التعرض لمؤلف؛ وشتان بين أسطر علقت عرضاً في حاشية وبين كلام مطول أنشئ للنقد خاصة.
أنا أدري - والإنصاف شريعة - أن الكلام على كتاب الأستاذ شاكر لا يكفيه فصل كبير، ففي الكتاب إحسان، وفيه إصابة واجتهاد، وفيه أماكن جديرة بالثناء حظيت بجهود حالفها التوفيق مرة وأخطئها مرة.