للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[رأي الرافعي في الأستاذين طه والعقاد]

بمناسبة ذكراه الثالثة

ذكرتُ بذكرَى الرافعي وعداً درجت الأيام عليه ولم أوفّ به. ذلك أن أذكر لقراء الرسالة الرأي الصريح المجرد لصاحب (السفود) و (تحت راية القرآن) في خصميه العظيمين طه والعقاد. وفي ظني أن تسجيل هذا الرأي قد يصحح ما شاع في أجواء الأدب من نقد مسه الهوى وحكم أفسدته الخصومة.

فإن الرافعي رحمة الله عليه كان من أبصر الناس بِصَرف الكلام وأقدرهم على نقده؛ ولكن تعقبه للأدباء الأحياء قلما كان يبرأ من مجاملة الصداقة أو منافسة الحرفة. فإذا أردت استنباط رأيه الحر من غوره البعيد لا يتيسر ذلك منه إلا في الخلوة حين يأمن الأذن الخصيمة والقلم المسجل

جلسنا معاً ذات يوم من أيام الإسكندرية على قهوة (أتينيوس) بعد غداء ضاحك هنئ على مائدة صديقنا المرحوم فليكس فارس. وكان الرافعي برد الله ضريحه شديد الحساسة بالجمال قوي الرغبة في اللذة؛ ولكنه كان يطلبها من طريق المحال أو الحلال فتعييه. كان يتمنى أن يكون كأصحاب الجنة: يصبو من غير فجور وينتشي من غير إثم. فلما أعجزه الدرَك أغلق فؤاده من دون نفسه؛ ثم فتح للجمال عينيه وأطلق في نعيمه لسانه، فلا يدع معنى من معاني اللهو ولا لوناً من ألوان العيش إلا صرَّف الكلام فيه وأدار الرأي عليه

كان حديث الرافعي على المقهى الأنيق الوادع أفانين من النكات والأفاكيه يدور أكثرها على سكرات الجمال في الكرنيش، وسطوات الشباب على الشاطئ، وحسرات الحرمان فيما بين ذلك. ثم توافدت زمر المصطافين على المقهى، فأخذ يتحفظ في الحديث ويخافت به حتى رده مرغماً إلى الأدب؛ فسألني كيف أكتب ومتى أكتب وماذا أشرب حين أكتب. فلما أجبته أني لا أفكر إلا أول الكتابة، ولا أكتب إلا آخر الوقت، ولا أدخن التبغ ولا أشرب القهوة ولا أكركر الشيشة، عجب كيفتواتي القريحة على هذه الحال الكليلة، وذكر لي ما يتملق به قريحته من المطاعم والمشارب والعقاقير، ثم روي لي الأعاجيب مما يُلقى عليه إلقاء في النوم، وما يلهَمه إلهاماً في اليقظة، وعزا ذلك إلى قوة إلهية ترفده وتسنده. فقلت له ضاحكاً: وهل تعتقد أن من إلهام هذه القوة تلك الفصول المقذعة التي كتبتها في

<<  <  ج:
ص:  >  >>