يجب أن يكون الناس قد انتهوا من الحرج والضيق، ومن العسر وسوء الحال إلى حيث أصبحوا ينكرون أنفسهم ويمرون سراعاً ببعض الأحداث الجسام التي كانوا يقفون عندها فيطيلون الوقوف، ويفكرون فيها فيطيلون التفكير. ويتذوقون آلامها متمهلين متعمقين كأنهم يجدون في تذوقها على مهل وفي أناة شيئاً من اللذة يدعوهم إلى استبقائها ومد أسبابها. فهم كانوا إذا ألم بهم الحدث من هذه الأحداث وجموا له وجوماً طويلاً ثقيلاً، ثم يذهب عنهم الوجوم شيئاً فشيئاً فيحسون لذع هذه اليقظة المؤلمة، ثم يفيقون فيقدرون خطر الحدث الذي أصابهم، ويذكرون من أصابهم فيه ويطيلون ذكره، ويتمثلون مواقفه المختلفة، ثم ينظرون إلى حاضرهم ومستقبلهم ويتصورون فقيدهم مواجها لظروف الحاضر والمستقبل، ويسألون أنفسهم عن مواقفه التي كان يمكن أن يقف من هذه الظروف لو امتدت له أسباب الحياة. ويتخذون من هذا التفكير المتنوع الطويل سبلاً إلى الألم متنوعة، ووسائل إلى الحزن متباينة، تأبى نفوسهم أن تقطع الصلة بينها وبين من فقدت، حتى إذا عملت الأيام عملها، وتكاثرت خطوب الحياة على ما يملأ النفوس من ذكرى، فالت أن تسدل عليه من النسيان ستاراً، جاهدت هذه النفوس ما وسعها الجهاد، لتقاوم الظروف، وتمانع النسيان وتستبقي شخص الفقيد ماثلا أمامها تنظر إليه وتحزن عليه وتبكيه أو تبكي أنفسها فيه.
كذلك كان الناس حين كانت حياتهم حياة تستحق هذا الأسم، وحين كانت أيامهم أياما، أما الآن فقد تغير الناس لأن حياتهم تغيرت، وقد تبدل الناس لأن أيامهم تبدلت، فقدت الحياة في نفوسهم قيمتها، فاصبحوا لا يذوقون لذتها وآلامها الا مسرعين. وفقدت الأيام في نفوسهم قيمتها، فاصبحوا لا يقفون عند أحداثها وخطوبها الإلماما. كثرت عليهم الأحداث والخطوب، وثقلت عليهم الأرزاء والمحن، وعجزت أعصابهم عن المقاومة، فعجزت نفوسهم عن الحزن كما عجزت نفوسهم عن الفرح. أصبح كل واحد منهم وكأنه الكرة الخفيفة الوثابة تتدافعها الحوادث، وتتقاذفها الكوارث، فلا تكاد تقع على حادثة أو كارثة، أو لا تكاد تقع عليها حادثة أو كارثة، حتى تثب وتقفز مسرعة، خفيفة، عنيفة، تبتغي حادثة أخرى وكارثة أخرى، أو تبتغيها حادثة أخرى وكارثة أخرى.
وهذا وحده هو الذي يفسر موقف الناس من هذا الخطب العظيم الذي ألم بهم حين نعت إليهم الأنباء عدلي يكن رحمه الله، فقد وقعت هذه الأنباء عليهم وقع الصواعق، فوجموا لها،