ولكنهم أفاقوا مسرعين من هذا الوجوم، لأنهم تعودوا وقع الصواعق في هذه الأيام. أفاقوا وجزعوا، واشتد عليهم الجزع، حتى كاد يشبه اليأس، ولكن جزعهم كان قصيراً محدود الأمد، فلم يمض يوم وبعض يوم حتى شغلوا عن هذا الخطب ولم ينسوه، وإنما صرفوا عنه صرفاً، صرفتهم عنه هذه الضرورات القاسية والآلام الملحة التي لا يعرفون كيف يخلصون منها أو يثبتون لها. وما رأيك في قوم لا يستقبلون النهار إذا أشرقت شمسه إلا بالخوف من بياضه، ولا يستقبلون الليل إذا نشر ظلمته على الأرض إلا بالإشفاق من سواده، يصبحون وهم يجهلون إلى أين يدفعهم النهار المضيء، ويمسون وهم يجهلون إلى أين يذهب بهم الليل المظلم.
كيف تريد من هؤلاء الناس أن يبتلوا مرارة الحزن ولذع الألم، أو يستعذبوا حلاوة الفرح وموقع السرور من نفوسهم؟ لقد فقدوا أو كادوا يفقدون هذه الملكات القوية الرقيقة الحساسة التي كانت تنقل إلى نفوسهم صور الحياة كما هي. فهي تمكنهم من أن يتعظوا بما يبعث العظة منها، ويبتهجوا بما يثير الابتهاج، هاهم أولاء يفكرون في أزماتهم على اختلافها، ويجدون في التخلص من هذه الأزمات أو الإذعان لها، ليس منهم إلا طالب أو مطلوب، ليس منهم إلا غالب أو مغلوب، ليس منهم إلا بائس أو منتظر للبؤس، وليس منهم إلا محرج أو مدفوع إلى الحرج، فهم معذورون إذا صرفتهم الحوادث صرفا عن ذكر هذا الفقيد العظيم، وعن إطالة ذكره والتحدث فيه، وهو مع ذلك مازال في دار الغربة حيث قبضه الله إليه، لم يعبر جثمانه البحر بعد إلى وطنه ليوارى في ترابه، ويدفن في ثراه المقدس.
هم معذورون. وعدلي رحمه الله أشد الناس قبولا لعذرهم هذا، لأنه كان أحسن الناس تقديراً لحالهم هذه. ولأنه أشد الناس عطفا عليهم وبراً بهم، ولأنه كان على امتيازه وأرستقراطيته الظاهرة يشاركهم فيما يجدون، ويقاسمهم ما يشعرون به من الحزن والألم وسوء الحال. والمصريون أكرم على أنفسهم من أن يكون سكوتهم عن عدلي بعد موته بقليل نسياناً له، أو تقصيراً في ذاته، فليس عدلي من الأشخاص الذين يقدر عليهم النسيان، وليس المصريون من الشعوب التي يهون عليها الجميل. ومهما يكن الأمر في ذلك فان ذاكرة التاريخ أقوى وأثبت وأعمق من ذاكرة الناس؛ وسيذكر التاريخ دائماً أن أربعة من المصريين كانوا أئمة