للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بين القاهرة واستنبول]

للدكتور عبد الوهاب عزام

١ - دمشق

يا صديقي صاحب الرسالة

أحسبك رأيت من قبلُ دمشق فآنقك مرآها، ونفحتك ريّاها، وآنستك ذكراها، ودارت بك منازهها وطرقها بين الماضي المجيد، والحاضر المجهود، والمستقبل المنشود. ولعلك أشرفت من قاسيون على البلد الجميل تحيط به الحدائق الشجراء متصلة بين المُزة والغوطة فسرحت الطرف والقلب في مرأى جميل ومنظر بهيج. ولا ريب رأيت بَرَدَى يتبطن الوادي، ويتسنم الجبل، وينسرب في شرايين المدينة فيسري في دورها ومساجدها وحماماتها وشوارعها، وتسمع أحياناً خريره في جوف قناة أو جدار لا تتبين مأتاه ومذهبه. ومن قبلُ قال ياقوت:

(فقلّ أن تمرّ بحائط إلا والماء يخرج منه في أنبوب إلى حوض يشرب منه، ويستقي الوارد والصادر. وما رأيت بها مسجداً ولا مدرسة ولا خانقاها إلا والماء يجري في بركة في صحن هذا المكان، ويسحّ في ميضته)

وأحسبك يا أخي مررت بمعاهدها فأحسست وقدة بين الضلوع، أو طرحت كما يقول البحتري ثقلا من الدموع

أدخلت إلى الجامع الأموي من باب جيرون ورأيت في الطريق المفضية إلى الباب صفا من العمد العادية، وتمثلت القرون تنسخ القرون، والعصور تحطم العصور، وولجت الباب العظيم إلى الصحن الفسيح فالتفت إلى شمالك فرأيت صور الدور والأشجار والأنهار مصورة بالفسيفساء منذ عهد الوليد. ثم ملت إلى اليمين فدخلت الجامع تروعك العمد العالية الضخمة تمتد في صفوف مديدة، ورأيت أمام القبلة قبة النسر الشامخة تزهى بما أشرفت على التوحيد في محرابه، وأظلت الحق في جماله وجلاله

وما أحسبك رقيت في المنارة الشرقية، وشهدت في مرتقاك حجرة يقال إن الغزالي كان يعتكف فيها، ثم بلغت القمة بعد جهد فجمعت أمامك المدينة، وزويت الأرض كأنك تطالع منها صورة في رقعة فقلت:

<<  <  ج:
ص:  >  >>