صحيح أن كل أفعالنا وحركاتنا الخاصة بحياتنا اليومية أو اتجاهاتنا الشخصية متعلقة بأحكام لا يمكن للعلم أن يكون الأساس المباشر للتصرف فيها. فإن العلوم كما يقول ريشنباخ لا تجيب أبداً على السؤال الآتي:(ماذا يجب أن أفعل؟) ومع ذلك فإن هناك اتصالاً بسيكولوجية بين درجة معرفة الرجل للعلوم وموقفه إزاء المشاكل التي تعترضه في الحياة وتقديره لبعض المسائل، وإننا نلاحظ أن كل المذاهب الفلسفية أو علم الأخلاق تبدأ بنظريات في العلوم ذاتها، نظريات تتعلق في العادة بصورة من صور العالم، والمتأمل يجد علاقة بين الاكتشافات العلمية الكبرى وأعمالنا أو نوع تفكيرنا. خذ مثلاً انقلابنا في التفكير الفلسفي من جراء اكتشاف كوبرنيك لدورة الأرض حول الشمس، هذا الاكتشاف الذي يذكر الأستاذ محمد مختار عبد الله في إحدى مقالاته الممتعة بجريدة الأهرام في العام المنصرم أنها اكتشافات بدأت من أيام العرب. ولست بصدد أن أناقش أصل الاكتشاف ونصيب كل عهد فيه ولا التحديد من موجة الرجوع عندنا بكل شيء لعهد العرب، وإنما أذكر أن الفكرة في ذاتها خارجة وغريبة عن أعمالنا اليومية - عن علاقتنا سواء بالأشياء أو الرجال أو مظاهر الحياة.
أن تدور الأرض حول الشمس، أو تدور الشمس حول الأرض، فإن هذا قد يُظن من موضوعات الفلك أو من موضوعات الترف في المعرفة. ولكن لنا أن نتأمل الناحية الفلسفية ونتأمل النتائج المترتبة عليها؛ وأولى هذه النتائج أن الأرض ليست هي جوهر العالم وما هي إلا سيار صغير جداً بين كثير من السيارات تدور كغيرها حول الشمس، وهذه الأخيرة أي الشمس ما هي إحدى إلا إحدى ملايين الشموس المماثلة وليست من أكبرها؛ وهذه الملايين تكون عالماً، وهنالك الملايين من ملايين العوالم المماثلة يتكون منها الكون. هنا وقف المرء مخذولاً في تفوقه أمام الظواهر الطبيعية؛ وهنا يتضح له شيء من العلاقة الدقيقة بين الإنسان وبين الأرض التي تحويه وبين الوجود، فالمعرفة العلمية لها أثرها على مشاعرنا وتصرفاتنا، وهذا هو الذي يحدو بالقارئ إلى تتبع مثل هذه المقالات.