تحلل القديس من قيود الوطن والأهل والأصدقاء ورحل يبلِّغ رسالته للناس، يبين لهم باطل الدنيا ودنس المال، ويدعوهم إلى اللحاق به في هجرته إلى الله وحده، لا يملك شيئاً ولا يستقر بمكان.
وسار وراءه نفر من أتباعه. رجال جاوزوا سن الثورة والاستهتار، خشنوا الجلد والملبس، إذا نزلوا بلداً سهل إيواؤهم وإطعامهم. . . وتشييعهم؛ ولو لم يتبعوه لظلوا أمام بيوتهم يصطلون الشمس طول النهار. ولكن من هذا الشاب الجميل الذي يسير في مؤخرة الموكب مديد القامة عليه سمة النبل، متئد الخطوة كأنه متبوع لا تابع. ما أصفى بياض يديه ورخوصة أنامله، يشد بها حافتي مسوحه فكأنها مشبك من الأحجار الكريمة. . . من يكون؟ ولماذا يسير مطرق الرأس؟
إنه النبيل (ع)، الابن الأصغر لسيد مقاطعة نائية، تربى في كنف العز وعاشر السعداء ولم تقع عينه على بؤس. ولما مات الأب، وورث الابن الأكبر لقبه وضياعه، دعا أخاه المدلّل وقال له:
- لا أطيق أن أصبح مميزاً عنك فأنفرد بالخير كله، ومقامك في قلب أبي الكريم كان فوق مقامي، فإن شئت عشنا سوياً لك مالي، وإن شئت اقتسمنا التركة بالتساوي.
فأطرق النبيل (ع) برأسه، ولم يجب؛ ثم غادر القصر واعتكف في كوخ صغير أياماً طويلة خرج بعدها يعلن لمن حوله أن هاتفاً هتف به بين اليقظة والمنام يدعوه أن التحق بالقديس. فلما ترامى الخبر للناس عدّوها كبرى معجزاته، وأكبروا في النبيل نزوله عن الغنى الواسع والعز العريض، واختياره التكفف وسؤال الناس كسرة الخبز في سبيل الله.
طارت شهرة النبيل بين الناس وتزاحموا حول الموكب لا ليروا القديس، فهم لا يجهلونه، بل ليتطلعوا إلى النبيل الوسيم كيف يبدو في ثياب الراهب. ينصرف الرجال عن الموكب وهم أرضى نفساً وأهنأ بطعامهم وشرابهم. أما الأمهات والجدات فكن يسبحن لله الذي سبقت إرادته فاختار هذا الوليد لحياة كلها حرمان وقسوة وما كان أجدر شبابه بالتمتع