إذا تمثلت الأستاذ ثابت، فلست أتمثل وأحداً من الرجال وكفى، وإنما أتخيل طريقة بأسرها من طرائق العيش، وأسلوبا شاملا في فلسفة الحياة، أخذ يتبلور ويتركز، حتى تجسد في أستاذنا ثابت، فمن الناس من يقضي حياته التي كتب له أن يحياها على ظهر الأرض، في بلد وأحد، بل في دار واحدة، بل في مكان بعينه من الدار. وأجرأ ما يطرأ على حياتهم الضئيلة الآسنة من ارتحال، انتقال من غرفة في الدار إلى غرفة أخرى كما يقول جولد سمث.
وهذا رحالتنا ثابت أراد ان يحيا! هو ذا قد وازن بين حركة الحياة وجمود الموت، وازن بين الأيام تدور، وتدور حول صورة بعينها آسنة راكدة، وبينها تزخر بأسباب الحياة، فلم يتردد في الاختيار. . وأخذ يضرب في مناكب الأرض، يجوس أنحاء أوربا ويخرج للناس وصفا لجولته في ربوعها، ثم يجوس في أنحاء آسيا ويذيع في الناس وصفا لجولته في ربوعها، ثم يجوس في أنحاء أفريقيا وينشر بين الناس وصفا لجولته في ربوعها، وهاهو ذا في الصيف الماضي، قد جال في أرجاء الشرق الأدنى وأخرج للناس هذه الجولة الجديدة التي نحن بصددها.
وان كان القراء قد أمتعهم ما طالعوه من مشاهدات رحالتهم في أوربا وآسيا وأفريقيا، فكم تمتعهم قراءة هذه الرحلة الأخيرة التي لم تكن بين أقوام من غرب بعيد، تربطنا وإياهم صلات مهما تكن - فهي على شئ من الضعف والوهن، ولم تكن بين أقوام من شرق أقصى لا تكاد تصلنا بهم إلا روابط الإنسانية الواحدة والعصر الوأحد، وإنما هي رحلة بين شعوب توشجت بيننا وبينها أواصر من الرحم والقربى هيهات أن تقوى على فصمها الأيام، وهي كما يقول الأستاذ المؤلف حقاً في المقدمة (أقطار تربطنا بها روابط وثقتها أواصر التاريخ والاجتماع والدين. وزادتها رسوخا صلة الرحم قديمة وإخلاص وعمق وعطف متبادل تذكى ناره رغبة مشتركة في النهوض، وطموح متأجج للخلاص بأوطان مهددة ظلت ولا تزال تئن تحت أخطاء أبنائها ونهم الطامعين فيها).
قرأت كتاب الأستاذ ثابت، فكنت أتابعه في رحلته بلدا بعد بلد، وقطر في أثر قطر، جبت معه - على حسابه - فلسطين وسوريا وتركيا والعراق وفارس وافغانستان؛ وكنت أقف معه هذه الوقفات التي تطول حينا وتقصر حيناً؛ أمام روائع الآثار القديمة المنتثرة هنا