لم يكد سبينوزا يبلغ سن الشباب حتى انكب على الفلسفة يدرسها دراسة
صادفت في نفسه هوى. فأخذ ينهل من مواردها العذبة ويؤثرها على
كل شيء وقد طالع فيم طالع فلسفة برونو فوقعت منه آراؤه موقع
الإعجاب وامتلأ ذهنه بما قاله ذلك الفيلسوف من: أن الوجود في
جوهره وحدة متجانسة وإن تعددت ظواهرها. إذ نشأت جميعها من
أصل واحد ثم اتخذت ألوانا مختلفة لا تغير من جوهر طبيعتها
المتجانس.
كذلك أعجبه رأي برونو المذكور القائل بأن الروح والمادة شيء واحد فكل ذرة من ذرات الكون يتحد فيها الجانبان: الروحي والمادي، وعنده أن موضوع الفلسفة هو إدراك تلك الوحدة التي تربط هذه الأشتات المتضاربة في الظاهر فترى الروح في المادة كما تلمس المادة في الروح.
ثم قرأ سبينوزا فلسفة ديكارت قراءة درس وتمحيص، فدعاه إلى التفكير الطويل برأي ديكارت في تقسيم الكون إلى شطرين: شطر مادي متحد في الجوهر على الرغم مما يبدو في الأجسام المادية من إختلاف وشطر روحي متجانس في جوهره كذلك، وهو عبارة عن مجموع القوى العقلية الحالّة في مختلف الأجسام وتدير هذه الشطرين وتشرف عليهما قوة إلهية عليا. . . قرأ سبينوزا ذلك فلم يوافق على شطر الكون واختمرت في نفسه على الفور فكرة وحدة الوجود التي تقول بأن الكون شطر واحد لا يتجزأ، وهذه الفكرة هي المحور الذي تدور حوله فلسفة سبينوزا، وها نحن أولاء نتناولها بالشرح والتحليل.
يقول سبينوزا أن في الكون حقيقة واحدة خالدة، هي عبارة عن قانون عام شامل لا ينقص ولا يزيد. هذه الحقيقة الخالدة، أو هذا القانون الشامل، لا يمكن أن يعبر عن نفسه ويفصح عن حقيقته إلاّ بواسطة الأجسام المادية، فاتخذ من تلك المادة التي تملأ جوانب الكون، قوالب وأشكالا لكي يبرز عن طريقها إلى عالم الواقع المحسوس، وهذه الصور والأشكال