غادر المتنبي أرض مصر وشعوره لأميره السابق سيف الدولة نستطيع أن نجمله في بيتين قالهما المتنبي وهما:
فارقتكم فإذا ما كان قبلكم ... قبل الفراق أذى، بعد الفراق يد
إذا تذكرت ما بيني وبينكم ... أعان قلبي على الشوق الذي أجد
فهو قد خرج من مصر ونفسه تواقة إلى سيف الدولة، مشتاقة إلى الاستظلال بكنفه، لأن آماله التي غرسها عند غيره لم يجن منها غير الخيبة والندامة؛ ولم يكن اشتياق سيف الدولة إلى لقاء المتنبي بأقل من ذلك، فقد أحس بعد فرقته بفراغ لم يملأه شاعر ممن حوله، ورأى بلبله الغريد قد طار عن أبكته، وحط عند غيره، ولم يكن أحب إليه من عودته، كما دلت على ذلك فعال سيف الدولة بعد أن فارق المتنبي أرض مصر، وهو إحساس كان من السهل على المتنبي أن يستثمره وأن يقصد تواً أرض سيف الدولة، ولكنه لم يفعل لأمور نستطيع تلخيصها فيما يأتي:
أولاً ما فطر عليه المتنبي من سمو النفس والعظمة التي كانت تملأ جنبيه، فقد عز عليه أن يلجأ إلى من فارقه مغضباً منه، وأن يذهب إلى من فرّط فيه ولم يبق عليه، بل سمع فيه قول الوشاة.
وثانياً هذا الشعر الكثير الذي قاله مضطراً تحت عوامل نفسية، وعوامل خارجية وثورة واضطرام عواطف وسب فيه سيف الدولة، فلم يجد من اللياقة أن يقصد من هجاء، ورأى في ذلك غضاضة لا يسبغها ولا يقبلها.
لم يذهب المتنبي إذاً إلى سيف الدولة ولكنه قصد الكوفة، وهناك كثيراً ما ذكر أيامه السالفة لدى الأمير وعهده الغابر؛ أما سيف الدولة فقد نسى كل ما ذكره المتنبي عنه حينما كان بمصر وأرسل إليه ابنه بهدية، فلم نجد المتنبي ما يشكره به سوى شعره، فكتب إليه قصيدة بدا فيها ما يكنه من جميل الذكرى وفيها يقول:
كلما رحبت بنا الروض قلنا ... حلب قصدنا، وأنت السبيل
والممَّون بالأمير كثير ... والأمير الذي بها المأمول