الذي زلت عنه شرقاً وغرباً ... ونداه مقابلي ما يزول
نقص البعد عنك قرب العطايا ... مرتعي مخصب وجسمي هزيل
إن تبوأتُ غير دنياي دارا ... وأتاني نَيْل فأنت المنيل
من عبيدي إن عشت لي ألف كافو ... ر ولي من نداك ريف ونيل
ولا ينسى في تلك القصيدة أن يسمعه تلك النغمة القديمة التي كان يطرب بها مسامعه أيام كان في كنفه، فهو يحدثه عن حربه مع الروم وطول عراكه معهم، لأن تلك النغمة أعذب نغمة لدى سيف الدولة، فهو يقول له:
وموال تحييهم من يديه ... نعم غيرهم بها مقتول
فرس سابق، ورمح طويل ... ودلاص زُعف وسيف صقيل
أنت طول الحياة للروم غاز ... فمتى الوعد أن يكون القفول
تلك القصيدة تشعرك حقاً بأن المتنبي يحفظ أجل الذكريات لأميره ولا ينساها. ثم لما ماتت أخت سيف الدولة وورد نعيها العراق وسمع به المتنبي أبت عليه نفسه إلا أن يكون له نصيب من الحزن عليها فرثاها بقصيدة تدلك حقاً على وجدان متألم، وأنه يحزن لحزن أميره القديم ويرثى لمصابه، وفيها يقول:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر ... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا ... شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
أرى العراق طويل الليل مذ نعيت ... فكيف ليل فتى الفتيان في حلب
يظن أن فؤادي غير ملتهب ... وأن دمع جفوني غير منسكب
بلى وحرمة من كانت مراعية ... لحرمة المجد والقصاد والأدب
فأنت ذا تراه ينفى عن نفسه أنه لم يشارك أميره في الحزن ويقسم له بحرمة الفقيدة ثم يقول:
يا أحسن الصبر زر أولى القلوب به ... وقل لصاحبه يا أنفع السحب
وأكرم الناس لا مستثنياً أحداً ... من الكرام سوى آبائك النجب
ولعل رغبة سيف الدولة قد اشتدت في أن يكون المتنبي إلى جانبه فأرسل إليه كتاباً بخطه إلى الكوفة يطلب منه أن يسير إليه، فأجابه بقصيدة فيها عتاب جميل واعتذار عن التخلف،