جلستُ على ساحل الشاطئ (في إسكندرية) أتأملُ البحر، وقد ارتفع الضُّحى، ولكن النهار لدن ناعم رطيبٌ كأن الفجر ممتد فيه إلى الظهر
وجاءت عربة اللُّقَطاء فأشرفت على الساحل، وكأنها في منظرها غمامةٌ تتحرك إذ تعلوها ظُلةٌ كبيرة في لون الغيم. وهي كعربات النقل غير أنها مُسورة بألواحٍ من الخشب كجوانب النعش تُمسك من فيها من الصغار أن يتدحرجوا منها إذ هي تدرُجُ وتتقلقل
ووقفت في الشارع لتُنزل ركبها إلى شاطئ البحر؛ أولئك ثلاثون صغيراً من كل سفيح ولقيط ومنبوذ، وقد انكمشوا وتضاغطوا إذ لا يمكن أن تُمط العربة فتسعهم، ولكن يمكن أن يُكبسوا ويتداخلوا حتى يشغل الثلاثةُ أو الأربعةُ منهم حيز اثنين. ومن منهم إذا تألم سيذهب فيشكو لأبيه. . .؟
وترى هؤلاء المساكين خليطاً مُلتبساً يشعرك اجتماعهم أنهم صيدٌ في شبكة لا أطفال في عربة، ويدلك منظرهم البائسُ الذليلُ أنهم ليسوا أولاد أمهات وآباء، ولكنهم كانوا وساوس آباء وأمهات. . . .
هذه العربةُ يجرها جوادان: أحدهما أدهمُ والآخر كُميْت. فلما وقفت لوى الأدهم عُنقه والتفت ينظر؛ أيُفرغون العربة أم يزيدون عليها. .؟ أما الكُمَيْتُ فحرك رأسه وعلك لجامه كأنه يقول لصاحبه: إن الفكر في تخفيف العبء الذي تحمله يجعله أثقل عليك مما هو إذ يضيف إليه الهم والهم أثقل ما حملت نفس؛ فما دمت في العمل فلا تتوهمن الراحة فان يوهن القوة، ويخذُلُ النشاط، ويجلبُ السأم، وإنما روحُ العمل الصبر، وإنما روح الصبر العزم.
ورآهم الأدهم ينزلون اللقطاء، فاستخفه الطرب، وحرك رأسه كأنما يسخر بالكميت وفلسفته، وكأنما يقول له: إنما هو النزوعُ إلى الحرية، فان لم تكن لك في ذاتها فلتكن لك في ذانك. وإذا تعذرت اللذة عليك فاحتفظ بخيالها فانه وُصلتك بها إلى أن تمكن وتتسهل؛ ولا تجعلن كل طباعك طباعاً عاملة كادحةً وإلا فأنت أداة ليس فيها إلا الحياةُ كما تريدك؛ وليكن لك طبعٌ شاعر مع هذه الطباع العاملة فتكون لك الحياة كما تريدك وكما تريدها