قرأت جميع المقالات التي نشرت في العدد الممتاز من مجلة (الرسالة) الغراء، الصادر في ٧ يناير. وأعدت قراءتها المرة بعد المرة، فخرجت من دراستها والتأمل فيها بأمرين خطيرين: الأول: أن الإسلام هو الذي أضرم في قلوب العرب الجذوة المؤججة من نار الحماسة القومية والروحية، فبعثهم من صحرائهم واندفعوا في جميع الجهات وتمكنوا - وهم فئة قليلة - بما كان لهم من الأيمان الوطيد من تدويخ الإفطار والأمصار، ومن القضاء على الإمبراطوريتين العظيمتين الفارسية والرومانية اللتين كانت تسيطران على دنيا ذلك الزمان. ولما استكملوا الفتوحات واستتب لهم الأمر، أساور في سبيل الحضارة والعلوم، فقطعوا في مضمارها أشواطاً، بزوا فيها جميع الأولين. والثاني: أن العرب ما تخلفوا عن قافلة الحضارة إلا لما تخلوا - بل لما تخلى زعمائهم - عن المثل العليا التي فرضها لهم دينهم العظيم مبعث كل حق ومصدر كل عدل، فتكالبوا على الدنيا وحطامها.
ذانك الأمران حقيقيان لا ريب فيهما: الحقيقة الأولى: تبعث في نفوسنا شعور الفخر بأجدادنا الغطاريف، والأمل بأن تعود سيرتهم الأولى فنرد شيئاً من مجدنا الضائع. والحقيقة الثانية: تحدث لنا شجناً وحزناً بليغاً، بل يأساً من هذا التخاذل والزيغ الذي صرنا إليه بسبب هجرتنا لمبادئنا العليا، بل بسبب مروق زعمائنا وحكامنا من مهيع الهدى، وسيرهم في سبيل الضلال والأنانية والأثرة هذا هو داؤنا الوبيل، وكلنا نعرفه ونشكو منه، وكلنا العلماء والجهلاء يعرفون هذا الداء ويصفون الدواء أيضاً، فيناشدون الزعماء والحكماء بأن يعودوا إلى مثل الإسلام العليا، ويقتدوا ولو اليسير بأجدادنا العظماء في صدر الإسلام - كأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب - ويروي التأريخ أن أبا بكر دعا ابنته عائشة وهو على فراش الموت وقال لها:(اعلمي يا بنيتي أني لم آخذ من أموال المسلمين وأفيائهم شيئاً، وإنما أكلت من جريش طعامهم وارتديت من خشن ثيابهم، وليس لي من أموالهم سوى هذه القطيفة وهذه البغلة وهذا العبد، فإذا مت فخذي هذا كله وسلميه إلى عمر). ثم توفى أبو بكر فأخذت ما أوصى به وسلمته إلى عمر، فأعتق عمر العبد وأرسل القطيفة إلى