كان عندنا مدرس (فاضل)، يعلمنا إنشاء ولا ينشئ، ويريد أن يجعلنا كتاباً وما كان قط كاتباً ولا صاحب قلم، وكان مما لقننا من مسائل هذا (الفن. . .) ولم نستفد منه لأننا لم نعمل به، أن القطعة الأدبية يجب وجوباً لا جوازاً أن تجيء في أحد عشر سطراً، في كل سطر إحدى عشر كلمة، فإن زادت على ذلك فهو الإسهاب الممل الذي وصفه أهل البلاغة، وإن نقصت فهو الإيجاز المخل، وأن الموضوع إن انتشر على الكاتب واتسع كان عليه أن يأخذ من أطرافه، ويضم بعضه إلى بعض، ولو بتر في سبيل هذا النظام (الأحد عشري) عضواً منه أو هدّركناً، حتى يعود إلى حده، ويدخل في أحد عشر سطراً لا تزيد، وإن ضاق عن ذلك وكان في أقل منه مجزأة ودلالة على القصد ووفاء بالمرام، كان على الكاتب أن ينفخ الموضوع حتى يكبر، أو يركب له فوق أعضاء أخر، ولا بأس أن يخرج مخلوقاً مشوهاً عجيباً. . .
لقد مرّ على هذا المدرس دهر طويل، وأكبر الظن أنه قد ذهب إلى رحمة الله، ولكني كلما عرضت لي فكرة لا تبلغ أن يكتب فيها مقال ذكرته، فأنا أضيع صوراً وخواطر كثيرة لأنها تجئ في الجملتين أو الثلاث ولا تؤلف مقالا، ومن حقها عليّ وحق القراء ألا أضيعها، وأن أدونها كما هي. . .
لذلك فتحت هذا الباب (مقالات في كلمات) أطرقه كلما تجمع لدى من هذه الكلمات ما يصلح للنشر:
ردوا علينا فننا
كنت أجوز أمس سوقاً في حي بلدي من أحياء القاهرة، أسرع الخطو لأنجو من هذا البلاء الذي يأخذ بالعين والأنف والأذن، قذارة ورائحة مزعجة وضجة مدوية، وفي بعض هذا ما يهرب منه، وإذا بي أسمع صوتاً تيقظت له روحي وتنبهت أعصابي، صوتاً منبعثاً من قهوة هناك ذكرني أيامي الخوالي وبلدي ومجالسي لي فيه. وا شوقاه إلى هذه المجالس!