هذه حياة فخمة. . . . ليست حياة واحد، ولكنها حياة أمة، أمة حملت مصباح النور، حين عمّ الكون الظلام، وأرشدت العالم التائه في عُباب الجهل، إلى شاطئ العلم، وكانت حضارتها المدرسة الثانوية التي خرجت العقل البشري وثقفته، كما خرجته المدرسة الابتدائية اليونانية من قبلُ وثقفته. . . فكان لها الفضل على كل إنسان!
حياة أبي بكر هي الصفحة الأولى من التاريخ الإسلامي، الذي بهر كل تاريخ وبذّه، والذي لم تحو تواريخ الأمم مجتمعة بعض ما حوى من الشرف، والمجد والإخلاص.
ذلك لأنه تاريخ الكمال الإنساني على وجه الأرض. . . . تاريخ المعجزة التي ظهرت في بطن مكة على يد رجل واحد؛ فلم تلبث حتى عمَّت مكة، ثم امتدت حتى شملت الجزيرة، ثم امتدت حتى بلغت أقصى الأرض. . . فكانت أكبر من الأرض، فامتدت في الزمان. . . . وستبلى الأرض، ويفني الزمان، والمعجزة باقية:
ذلك لأنه تاريخ الإسلام، الذي بدا سره في هذه الأمة البادية الجاهلة المتفرقة، فجعل منها أمة لم يكن ولن يكون لها نظير. . . . امتزجت روح الإسلام بأرواح المسلمين وغلبت عليها، ثم استأصلت منها حب الدنيا، وانتزعت منها الطمع والحسد، والغش والكذب، وأنشأت من أصحابها قوماً هم خلاصة البشر، وغاية ما يبلغه السمو الإنساني. . .
أنشأت من أصحابها قوماً يغضبون لله، ويرضون لله، ويصمتون لله، وينطقون لله، قد ماتت في نفوسهم الأهواء، وبادت منها الشهوات، ولم يبق إلا دين يهدي، وعقل يستهدي قوم كان دليلهم الدين، وقانونهم هدى سيد المرسلين، وشعارهم شعار المساكين، وعيشهم عيش الزاهدين، ثم كانت فتوحهم فتوح الملوك الجبارين، وكانوا سادة العالمين؛ لم يمنعهم زهدهم من أن يكونوا أبطال الحروب وسادة الدنيا، ولم يفتنهم ما نالوا من مجد، وما بلغوا من جاه، عن دينهم وتقواهم
قوم ينصب لهم أميرهم قاضياً، فيلبث سنة لا يختصم إليه اثنان! ولم يكونوا ليختصموا