للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[المستغربون]

(مهداة إلى الأستاذ عباس خضر)

للأستاذ علي محمد سرطاوي

الاستغراب كالاستشراق، حذوك النعل بالنعل - إذا جاز هذا التعبير - هو الهيام بالغرب والوله في حبه وكل ما يصدر عنه من خير وشر وأوهام وأباطيل.

والمستشرقون فحول من أبناء الغرب، بسقوا من جرثومة شعوب قد استكملت الاستقرار الاجتماعي الصحيح العميق، وفتحوا عيونهم في الحياة على كيان قد توطدت أركان الأسرة فيه على أسس من تصميم الزمن، وبناء من مجتمع قد أرهفت الثقافة الشاملة الفرد فيه.

والشعوب الغربية التي نشأ فيها المستشرقون قد نضج الفرد فيها وفني في المجموع فناء تاماً. والمواطن الصحيح عند تلك الشعوب، ذلك الذي يؤدي واجبه في الخدمة الاجتماعية تاماً غير منقوص، وهو الذي يفتش عن أحسن دور يستطيع تمثيله على مسرح الخدمة العامة مهما تجشم من صعاب في سبيل إتقان ذلك الدور دون أن ينتظر ثناء أو تقديراً.

ولم يكن كل ما قدمه المستشرقون من الدراسات المضنية التي وقفوا حياتهم عليها خالصاً لوجه العلم؛ بل إنما كان في كثير من الأحايين ضرباً شاقاً من الخدمة الاجتماعية يؤديه المستشرق لأمته في هذا الميدان الذي يحطم الأعصاب، ولا يصمد فيه غير الأبطال والجبارين الموهوبين.

والمستغربون عندنا نكرات اجتماعية بسقوا من جرثومة شعوب لا تزال تعتز بالعظام، وتعيش على أمجاد التاريخ، وتدور حول حقائق الحياة، وتدبر عن النور وتقبل على الظلام، وتغفو في وادي الأحلام.

وهؤلاء ليسوا إلا أفراداً تميزوا عن القطيع الذي لا يزال في مستوى الحيوان يرعى العشب ويرضى بالهوان ويقيم على الضيم كالأذلين: عير الحي والوتد.

والذكاء على قلة عند الفقراء، والثراء على كثرة عند الأغنياء، هما اللذان دفعا بعض الشرقيين إلى حضارة الغرب يتتلمذون عليه في دراسات لا تزيد على بضع سنوات، كان بعضها خالصاً لوجه العلم بالنسبة للذين كان يصرفهم عن العبث نقص جسدي في العينين أو مادي في الجيب، وبعضها كان بريئاً في العلم بالنسبة للذين آتاهم الله بسطة في الجسم

<<  <  ج:
ص:  >  >>