من أراد أن يلتمس حظ الأديب في الشرق، وما يلاحقه من فاقة وحرمان، وما تضطرب به حياته من أوجاع وآلام، فيلتمس ذلك كله في حياة عبد الحميد الديب
ذلك شاعر قطع حياته غريباً عن هذا العالم الذي يعيش الناس فيه، لم يكن يدري أنه حي، لأنه لا يُرزق والأحياء يرزقون!
صدفتْ عنه النعم جميعاً، وحلّتْ به النقم جميعاً. عاش لا يعرف السكن، ولا يعرف الأهل، ولا يعرف الوطن
حاول مرةً أن يتخذ لنفسه سكناً كما يفعل الناس، وأن يعيش مثلهم ذلك العيش الرتيب المريح، فجمع كل عزمه، واستأجر غرفة في أحد الأحياء الوطنية بالقاهرة، وأقام بها أياماً يفترش أرضها ويلتحف سماها، ثم تأمَّل حياته فيها، ومُقامه بها فقال:
أراني بها كلَّ الأثاث فمعطفي ... وساد لرأسي أو وقاءٌ من البرد!
وهجرها إلى غير رجعة وعاد إلى ضلاله وتيهه!
عاش هذا الفنان البائس لا يعرف المال إلا من فضل ما يمنحه إخوانه من دراهم معدودات يسد بها بعض رمقه، ويقضي بها بعض لبانته، ولكنها لا تكاد تفي له بشيء، فعاش على الجوع والطوى، إنْ أصاب طعام يومه ففي ذمة الحظ والمصادفة طعام غده، وأخيراً جداً أرادوا به خيراً، فوظفوه في وزارة الشؤون الاجتماعية براتب هو جنيهات خمسة! فقبل الوظيفة راضياً شاكراً، وذهب إلى (الديوان) نشوان فرحاً، حامداً الله على نعمته، والتمس كرسياً يجلس اليه، ومكتباً يعمل عليه فلم يجد، فأرسل إلى الوزير يقول:
بالأمس كنت مشرّداً أهليًّا ... واليوم صرت مشرداً رسميَّا!
وبعد ثلاثة أشهر من توليه هذه الوظيفة، لفظ الشاعر آخر أنفاسه، وقضتْ عليه علة طارئة لم تجد العلاج النافع
كانت هذه المحن التي ألمت بهذا الشاعر، وطاردته طول حياته لا يكاد يفر منها إلا إليها، وهذه النكبات التي انصبت على رأسه لا يعرف عنها منصرفاً. كان كل ذلك مُلهباً لنفسه،