مثيراً لحفيظته. رأى الحرمان الشامل يحيط به ويُلازمه فحقد على المجتمع ووجد عليه، وهو الأديب الفنان ذو الحس المرهف، واستحال الشاعر جحيماً من العداوة والكره والبغضاء للناس، تغنّى آلامه وأوجاعه بالبليغ الجزل مما عرفت العربية من شعر الشكوى والأنين، كنتُ - وأنا بعدُ في صدر الشباب - أغشى مجالس الأدباء والشعراء في العاصمة فما رأيتُ - علم الله - مصدوراً يُنفس عن كربته إلا بشعر عبد الحميد الديب، ولا مُؤلماً يشكو آلامه، ولا متعباً يشكو أوجاعه إلا بشعر عبد الحميد الديب وهو هو النكرة المجهول المحروم المقصيُّ عن الناس بفقره وخصاصته
لك الله أيها الأديب، ولكم الله أيها الأدباء، أنتم بحقٍ جنود هذا المجتمع المجهولون، تحترقون أيها الأدباء لتنيروا للناس، وتجوعون أيها الأدباء لتشبعوا الناس، وتعروْن أيها الأدباء ليكتسي الناس، وأنتم - بعد - لا تنالون منهم جزاءً ولا شكوراً
شدَّ ما مَنَّى غروراً نفسه ... تاجر الآداب في أن يربحا!
أما أنت يا عبد الحميد، فهيات أملك وصفك الحق للناس - وقلَّ فيهم من يعرفك - هيهات يا عبد الحميد أن أعطيهم عنك صورة صادقة صحيحة سليمة لنفسك ولمتاعبك وشقائك، فلأعرض عليهم بعض شعرك ليعرفوا يا عبد الحميد من أنت
١ - دمع المنازل
بِوَاد كدار الخلد برِّ المنازل ... حييتُ فمالي لا أفوز بنائل؟
أقاسي به في ليله ونهاره ... معيشة أفَّاق ووحدة ثاكل
وكم سألوني كيف تشقى مع الحجى ... وفي شعرك الهامي عذاب المناهل؟
فقلت بهذا الشعر بؤسي وشقوتي ... كما قتل الصدَّاحَ زهر الخمائل
فلا تسألوني عن دمائي وسفكها ... سلوا بدمي الغالي جريمة قاتلي
فكم مرَّت النعمى عليَّ بسيمة ... فأبعدني عنها وضيع الوسائل
ورفض لئيم كاشح القلب حاقد ... منالي أرزاقي بهمة عامل
بكت بلدتي حزناً عليّ وحسرةً ... وأحزن ما أبصرت دمع المنازل
وكم ندبتني في حماها ضريرةٌ ... تنوح بصوت خافت الصوت ذابل
وشيخ أبيَّ الدمع إلا بمحنتي ... وفي ثوبه مجد الكرام الأماثل