كان كل امرئ يعرفه - أهل الحي، وزوّار الأمام الشافعي، والأجانب السياح الذين يجيئون إلى هذه الناحية، ليروا مقابر الخلفاء والمماليك ومدافن (الباشوات). وكان (عبد السميع) - كاسمه - سميعاً، ولكنه غير بصير؛ وكان له حجر عال عريض يقعد عليه، ولا يريمه، في الشتاء والصيف؛ ولم يكن يبالي لا الشمس ولا الرياح، ولا المطر ولا التراب؛ وكان يظل نهاره على هذا الحجر، فإذا غابت الشمس ودخل الليل، اختفى، كأنما ابتلعته الأرض، أو انشق له الحجر فغاب فيه، فكل ما يعرفه الناس من أمره أن هذا مكانه قبالة المسجد، وأن كل راكب يميل إليه ويترجل عنده، ويضع بين أصابعه زمام دابته، حتى يفرغ من الصلاة في المسجد أو غيرها مما جاء له، فينقده القرش أو المليم ويتناول منه العنان ويحييه ويمضي. وكان (عبد السميع) يعرف كل رجل وامرأة وطفل في الحي، وكل غريب ألقى إليه بزمام حماره أو بغلته أو فرسه أو مهره، من صوته؛ وكان من عجائبه أنه يعرف - وهو ممسك بالأعنة - حمار من الذي نهق، وأي هذه الدواب تعلك لجامها، وأي البغال مزنوقٌ فيرفه عنه ويرخي له الرباط الذي تحت حنكه، وأي حمار تفلتت الشكيمة من فمه، فينهض إليه ويردها إلى مكانها من فيه، وأي الأفراس انحل إبزيم منطقته فيعقده، أعني يدخل لسانه في طرفه الآخر. وكان كثيراً ما يشير على أصحاب الدواب باتخاذ المراشح تحت لبد السروج لتنشيف العرق، أو بتضمير الفرس إذا وجدها سمينة، أو برفع المهماز إذا أحس بيده آثار وخزه في جلدها، أو بتغيير السرج إذا وجد له عقراً بظهرها، فقد كان رحيماً رقيق القلب
وكان يأبى أن يتخذ عصاً يتوكأ عليها، ويجس بها الأرض ويقدر لرجله موضعها قبل الخطو، فكان يمشي مطمئناً واثقاً، كأنما يرى الطريق، ويلقي التحية إلى الناس بأسمائهم، في دكاكينهم حين يبلغها، بل كان يعرف المرء من دبة رجله على الأرض، فيقول له:(مالك مستعجلاً يا فلان؟ خيراً، إن شاء الله!) وكان - ولا يزال - هناك طريق أعلى من الميدان الذي أمام المسجد يؤدي إليه سلم، درجاته متهدمة، فكان إذا بلغها يرقى فيها كأنه