صبي في العاشرة من عمره؛ ولكن أعجب من هذا كله أنه كان يركب الخيل والحمير والبغال، ويركضها في الطرق والسكك التي ألفها، فإذا اعترضته زحام أو قطيع من الغنم، حبس الدابة، ثم أرخى لها اللجام، وتركها تتخلل الزحمة حتى إذا أحس خلو السكة نقرَ بها، ليزعجها ويستحثها؛ فقد كان كما أسلفت شديد الرفق بالحيوان، لا تطاوعه نفسه حتى على نَكْزِه بقدمه العارية
وكان دائم البشر، لا يتجهم ولا يكتئب، ولا يبدو للناس إلا طلق المحيا، ضحوكاً، طيب النفس، حلو الدعابة؛ ولكن غزله كان فيه بعض العنف، فقد كان إذا داعب فتاة لا يحلو له إلا أن يقبض على شعرها ويجذبه إليه بقوة فينتف بعضه؛ وكانت الفتيات يحذرن ذلك ويتقين أن يكن منه بحيث تنالهن يده
وجاء الشتاء، وجاء معه طبيب عيون ألماني، فأدار عينه في الصحراء فرأى على جبل المقطم شيئاً كالبناء فأشار إليه وسأل عنه فقالوا هذا قبر الجيوشي - أمير الجيوش - فرجا منهم أن يكون أحدهم دليله إليه، فقالوا:(بل يكون دليلك عبد السميع) وجاءوه به، فتعجب، ولو كان يعرف العربية معرفتها لتمثل بقول القائل:
أعمى يقود بصيراً، لا أبالكم ... قد ضل من كانت العميان تهديه
ولكن عبد السميع لم يضله، ولم يندم الطبيب على ثقته به واطمئنانه إليه، ووجد في صحبة هذا الدليل الغريب كل ما طالعه به وجهه الصبيح من الأنس، فنشأت بينهما بعد هذه الرحلة صداقة فريدة، فكان الطبيب يزوره كل بضعة أيام، ويجلس إلى جانبه على حجره العالي، ويراعيه وهو يحرس الخيل والحمير لأصحابها؛ ووقع من نفسه رفقه بها وحسن تعهده لها، فقال له يوماً - بعربيته المحطمة - إنه يريد أن يعمل له في عينيه شيئاً، وإنه يرجو أن يرد بذلك بصره عليه، فضحك (عبد السميع) وقبل. وكان قد ألف أن ينظر الأطباء في عينيه وأن يسمعهم يتلاغطون بما لا يفهم، ثم يمضون عنه ويبقى هو على حجره
وجاء يوم نظر فيه الناس فإذا الحجر خال، ولا (عبد السميع) هناك، فصارت الأعنة تلقى إلى صبيان يشدونها إلى مسامير في الحائط، وينامون ويتركون الحمير تترافس
وكان (عبد السميع) راقداً على سرير نظيف في مستشفى، وعلى رأسه ووجهه - إلى أرنبة أنفه - الضمادات، وهو ساكن لا يقول شيئاً، ولا يبدي ألماً أو ضجراً، ولا يدع شكه يغلب