بشره أو شكره لصديقه، وكان من العسير أن يعرف أحد في أي شيء يفكر هذا الراقد المعصوب الرأس. ولعله - لطول صمته على خلاف عادته - كان يجاهد أن يتصور الدنيا الجديدة التي سيرثها حين يفتح عينيه عليها ويبصرها لأول مرة؛ ولعله كان يستهول أن يبصر كل ما عرفه وألفه بحواسه الأخرى، وكان كل ما يجيب به الطبيب حين يحدثه وهو يغير له الضمادات (إن شاء الله! إن شاء الله!) ثم يتحرك كالقلق المضطرب على هذا الفراش الناعم تحت الملاءة النظيفة
وكان الطبيب واثقاً من نجاحه، فجمع إخوانه - زملاءه - في صباح يوم، وحل الأربطة بعناية وحذر، ثم ترك ضوءاً خفيفاً يدخل في الغرفة، وتناول يد (عبد السميع) برفق، وهو أشد ما يكون اضطراباً وسأله (أترى شيئاً؟) فقال عبد السميع - وعلى فمه ابتسامته التي لا تزايله - (صبراً، صبراً)، فصبر الطبيب لحظة ثم فتح النوافذ فغمر النور الحجرة وملأتها الشمس ورقدت أشعتها على السرير والجالس عليه، والأطباء حافون به، منحنون إليه، يحدقون في وجهه وأنفاسهم مسرعة، وقلوبهم في حلوقهم، و (عبد السميع) ساكن، ووجهه الباهت من طول الرقاد، إلى النافذة التي تطل على النيل؛ ثم تحركت يداه، وارتفعت كفه إلى محياه، وجعلت أصابعه المرتعشة تتحسس عينيه، فأدرك القوم أن الطب أخفق، وتوجع الطبيب الألماني وارفض دمعه، فغطى وجهه بكفيه ليحبس عبراته أو يكتم نشيجه، وسمع (عبد السميع) ما يتردد من البكاء المكتوم فنهض، وعلى وجهه ابتسامة رزينة، وتحسس طريقه إلى صديقه المحزون، ومد يده الخشنة فلمست لحيته المبللة، فنقلها إلى كتفه وقال بصوت لا يشي بما عسى أن يكون مطوياً تحت ضلوعه
(لا تبك يا صاحبي! ازجر عينيك، إنه قضاء الله، ولا حيلة لنا فيه، ومن نكون نحن حتى ندفعه أو نغيره!) ثم تلفت، فأقبلوا عليه يسألونه هل يريد شيئاً؟ قال:(نعم - صبي يعود بي)
وعاد إلى حجره، وخيله وحميره، فلم يغب عنها بعد ذلك مرة أخرى، ولم يقل لأحد أين كان