فنونه الشعرية: تناول أبو العتاهية لأول أمره من فنون الشعر الغزل والمدح والرثاء والهجاء والعتاب والاستعطاف وما إلى ذلك مما كان يتناوله غيره من الشعراء، ثم استفرغ بعد ذلك جل شعره في الزهد والوعظ والحكمة والمثل، فأعطى الشعر العربي من ذلك ثروة عظيمة كانت تنقصه
فأما غزله فكان يذهب فيه مذهب الشعراء العشاق كجميل بثينة وغيره، وإن كنا قد ذكرنا في ترجمته أنه لم يكن صادق العشق مثلهم، ولكن سجيته التي كانت تنازعه من أول أمره إلى قول الزهد، لم تكن لترضى له أن يذهب في غزله مذهب فساق الشعراء كامرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة وغيرهما، فجاء غزله عفيفا بعيدا عن الفحش والفجور، ليس فيه إلا شكوى الصبابة وألم الصد وعذاب الفراق ونحو ذلك من وجدانات أهل العشق؛ ولعل هذا أيضا مما كان يرغب المهدي والرشيد في غزل أبي العتاهية ويجعلهما يغضبان عليه إذا أراد أن يتركه إلى الزهد، مع أنهما كانا لا ينظران إلى غزل أحد غيره بتلك العين التي نظرا بها إلى غزله، وأمر المهدي مع بشار في غزله معلوم، وكذلك أمر الرشيد مع أبي نواس؛ وقد شاع الغزل بالمذكر في عصر أبي العتاهية فصان نفسه عنه، ولم يدنس شعره به، وهذه شهادة مسلم بن الوليد في غزل أبي العتاهية. ذكر أبو الفرج أن مسلما قال: كنت مستخفا بشعر أبي العتاهية فلقيني يوما فسألني أن أصير إليه: فجاءني بلون واحد فأكلنا، وأحضرني تمرا فأكلناه، وجلسنا نتحدث، وأنشدته أشعارا في الغزل، وسألته أن ينشدني، فأنشدني قوله:
بالله يا قُرة العينين زوريني ... قبل الممات وإلا فاستزيريني
إني لأعجب من حبٍّ يقربني ... ممن يباعدني منه ويعصيني
أما الكثير فما أرجوه منك ولو ... أطمعتني في قليل كان يكفيني
ثم أنشدني أيضا:
أخلايَ بي شجو وليس بكم شجو ... وكل امرئ عن شجو صاحبه خِلْوُ
وما من محبٍّ نال ممن يحبه ... هوّى صادقاً إلا سيدخله زهو