الشعراء العالميون في شعراء العربية قليلون، وإنهم ليبلغون من القلة بحيث إنك لا تكاد تبلغ بهم عدد أصابع اليد الواحدة، وهذا بينما ترانا الآن نعرف من أسماء شعراء أوربا في هذا العصر أكثر مما نعرف من شعرائنا الأقدمين، وندرس من شعرهم وأدبهم أكثر مما ندرس من الشعر والأدب العربيين، حتى أصبح الشعر والأدب الأوربيان فتنة شبابنا الناشئين، يكلفون بهما أكثر مما يكلفون بشعرنا وأدبنا، ويصرفون جل أوقاتهم في دراستهما، وتعرف طرائقهما حتى أثر هذا في شعرهم، وصرنا نرى بهذا الشعر العربي أساليب كثيرة ما كان يعرفها من قبل، ومعاني جديدة تغزوه كما يغزونا أصحابها برجالهم وأسلحتهم، وأموالهم ومصنوعاتهم
وربما يكون أبو العتاهية أول شاعر عربي بلغ هذه المنزلة الشعرية العالية، وكان له شعر عالمي تتسابق الأمم المختلفة اللغات إلى روايته ودرسه، وترجمته إلى لغاتها وإذاعته في بلادها. قال أبو الفرج: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي إجازة قال: حدثني الرياشي قال: قدم رسول لملك الروم إلى الرشيد، فسأل عن أبي العتاهية وأنشده شيئا من شعره، وكان يحسن العربية، فمضى إلى ملك الروم وذكره له، فكتب ملك الروم إليه، ورد رسوله يسأل الرشيد أن يوجه بأبي العتاهية، ويأخذ فيه رهائن من أراد، وألح في ذلك، فكلم الرشيد أبا العتاهية في ذلك، فاستعفى منه وأباه، وأتصل بالرشيد أن ملك الروم أمر أن يكتب بيتان من شعر أبي العتاهية على أبواب مجالسه وباب مدينته وهما:
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجومُ السماء في الفَلك
إلا لنقل السلطان عن مَلِك ... قد انقضى مُلكَه إلى مَلِك
وهما في الحق بيتان جديران بأن ينالا مثل هذه العناية من ملك الروم، فما أحسنهما عظة بالغة، وما أصدقهما حكمة نافعة، وما أجمل أسلوبهما في سهولته وامتناعه، ولكن علماءنا جازاهم الله لا يقدرون من هذا ما قدره ملك الروم لأبي العتاهية، وقد ينظرون إلى هذين البيتين إذا قرأهما إلى صناعتهما اللفظية، ولا يعنيهم منها هذا المعنى الجليل الذي عنى به