اطَّلعت على الخريف في حقوله الوسيعة، وعواصفه المريعة وتنهداته الذاهبة في الفضاء، وأوراقه الذابلة الصفراء، وهي تترنح بين أنفاس الجو ونسمات الريح؟؟
أعرفت مخارفه المبتلة، وشمسه المعتلة، وأشعتها الواهنة، الواهنة في مثل بسمة العليل وضحكة المضني؟
أبصرت بضحضاحه الراكد ومائه الراقد في جنبات الطريق؟ أعرفت كل هذا؟
إن كنت علمته فأنت غير خال من التعصب له، أو التحامل عليه، كما أحبه بعضهم فجنوا به، وكرهه آخرون فتطوعوا لسبه. أما أنا - علم الله - فهو أثير عندي، حبيب إليْ. ولخريف واحد أثمن عندي من صيفين وأجمل. فأنا أهيم بقطع اللهب الكبيرة، وأستريح بمقربة المدفأة المتواضعة، وكلبي ممدد ساكن بين دزلكي المبلل الرطب، ومقعدي الدافئ الوثير.
وكم يحلو لك التأمل في سعير اللهب المضطرب، يلعق بأنيابه الدقيقة قطع الحديد العتيقة، ويضيء الظلمات النائية البعيدة.
وتسمع زفيف الريح في أهراء القمح، ويطرق أذنك صرير الأبواب ونباح الكلاب، وقد تمردت على سلاسلها الحديدية ومقاودها المعدنية. وتميز برغم دوي الغابة الملاصقة وهي تزمجر بظهرها المقصوف صراخ الأغربة القاتم، وهي تصارع العاصفة وتنازل الرياح القاصفة.
وتشهد الوسمي يقرع ألواح الزجاج الصغيرة، فتفكر في هؤلاء الذين هم في الخارج وأنت تمدد رجليك نحو المصطلى.
أجل أنا جد مفتون بالخريف، وصغيري العزيز يهواه كما أهواه. وليس مظهر جماله ومبعث جلاله في اجتماع العائلة حول الموقد، ينعمون بدفئه المثير، ولآلائه الكثير، وإنما له أيضاً من عواصفه الهوج، ورياحه الداوية، وأورقه الذاوية ما يحبب إلى النفس المجازفة بين هذه الأنواء الصاخبة، وتلك الرياح الغاضبة.