للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وكم من المرات ذهبنا كلانا نرود الحقول والمزارع، بين سفعات القر، وتلبدات السحب، وقد أحسنا الكساء، وأثقلنا الرداء، ولبسنا أحذيتنا الضخمة المتينة، فكنت أرتفق سعده وآخذ عضده، ثم نسير دون اتجاه معين ولا غرض مقصود.

وكان حينئذ لم يتجاوز الخامسة من عمره، ولكنه يخب في مشيته خبب الرجال؛ فكنا نأخذ الطريق الضيقة المفروشة بالأعشاب النضرة السوداء، خلال أشجار الحور الرمادية التي كانت تسمح للعين بأن تخلص إلى ما وراءها من الأفق، وتخترق ما دونها إلى بسمات البرق، فتلمح في قرارة البعد تحت السماء البنفسجية صفحة من العصائب الصفر الباردة، وتشاهد سقوف الأكواخ المتهدمة، ورؤوس المداخن المتداعية، تتصاعد منها سحب رهوة في زرقة لطيفة كأن الريح تطاردها بعنف وتصاعدها بقسوة.

وكان طفلي الصغير يطفر من المرح وقد أمسك بيده قبعته حذراً من أن تطير، وكان يحدجني بعينيه الرجراجتين تحت فيض المدامع وقد ضرج البرد وجنته، وفي مؤخر أنفه لؤلؤة صافية قد أشرفت على السقوط، وكان على ما به فرحاً مسروراً. وكنا نقطع السهل الرطب وقد حفت جوانبه بنمير النهر العذب، وزينت شواطئه بالقصب المتشابك، وعرائس النيل المتلاحمة وزهور النهر المتنوعة.

وكنا نشاهد قطعاناً من البقر وقد غاصت حتى أعالي سوقها بين الأعشاب السامقة، وهي ترعى في سكون واطمئنان، وفي حفرة صغيرة عند جذور شجرة من الحور تجثم طفلتان متناظرتان في جلستهما في ظل معطف كبير، وقد لفهما إليه وجذبهما عليه؛ وهما ترعيان رعيلهما والرجلان نصف عاريتين في الحذاء الممزق، والوجهان المرتجفان قد برزا من واقية المطر.

وكان يقتطع علينا سيرنا المجد - في الفينة بعد الفينة - غدران واسعة قد عكست عليهما صفحة السماء الخافتة، فكنا نتريث برهة على ضفاف هذه البحيرات، وقد داعبت صفحتها ريح الشمال ونشاهد الأوراق الطافية وهي تساقط من أعالي الأشجار، وتسبح في مهاوي الريح، وتثوي على وجه المستنقع، فأحمل طفلي الحبيب بين ذراعي ونجوز العدوة الأخرى فنشاهد في أطراف الحقول السمراء الخاوية المحراث المقلوب، والوتد المنصوب، وعسالج الكرم المعراة قد امتدت على الأرض، والحمائل الصلبة الرطبة قد تجمعت أكواماً،

<<  <  ج:
ص:  >  >>