للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الخروج من النفس]

للأستاذ عباس محمود العقاد

كل ناقد لابد له من قدرة على الخروج من نفسه بعض الأحايين، أو من قدرة على تصور الأشياء كما يتصورها مائة إنسان لا كما يتصورها فرد واحد في جميع الحالات

وما كان (الخيال) ملكة من أنفس الملكات وألزمها للناقد والأديب والشاعر والعالم إلا لأنه يتيح للإنسان أن ينظر إلى نفسه أحياناً كما ينظر إلى غريب، وأنه ينظر إلى الغرباء أحياناً كأنهم نسخ أخرى منه يحس معها وتحس معه، ويحس باللحظة عينها بالفوارق بين تلك الأحاسيس جميعها، فينقد ويؤلف ويقسم ويوزع ويعلم أن الصواب لا ينحصر في سمت واحد ولا حالة واحدة، وأن الأمر لا يكون خطأ لأنه يخالف ما استصوب، ولا يكون دميماً لأنه يخالف ما استحسن، ولا يكون بدعاً غريباً لأنه يخالف ما تعود، ولكنما الحقيقة فصيلة من فصائل الجان، تتشكل كما يتشكلون بمختلف الأشكال والنماذج والألوان

وبعض الأمم يبتلون بضعف الملكة الناقدة لأسباب كثيرة بعضها أصيل وبعضها عارض يزول

فمنها ما يؤتى من جانب الغرور عقب النصر الباهر، وفي أيام الرخاء والوافر؛ ومنها ما يؤتى من جانب الجمود والركود وطول العهد بالحضارة، بين جيران من ذوي الخشونة والجلافة؛ ومنها ما يؤتى من جانب العزلة وقلة المخالطة والهجرة؛ ومنها ما يؤتى من بلادة الحس وضيق العطن وشيوع الجهل والقدامة؛ ومنها ما يؤتى من التعصب الشديد الذي يؤصله في النفس طول الظلم والاضطهاد مع قوة في الشكيمة وقدرة على التحول والتصرف تحول دون الأمة والفناء

وأحسب أن المصريين من أكثر الأمم سخرية بما استغربوه ولم يتعودوه، فلا يكون الخطيب خطيباً ولا الواعظ واعظاً ولا الممثل ممثلاً إلا إذا خاطبهم باللهجة المصرية التي لا تشوبها مسحة من اللهجات العربية الأخرى ولو كانت ريفية من صميم البلاد المصرية

وأذكر أن ممثلاً سورياً كبيراً حضر إلى مصر بعد اغتراب سنوات في أوربا تتلمذ خلالها على أساطين المسرح الحديث وعاد إلى مسرحنا بنمط جديد في بعض الأدوار يبذ به أنداده وسابقيه، فذهبت ومعي اثنان من الأدباء - وأقول من الأدباء لا من عامة السواد -

<<  <  ج:
ص:  >  >>