وأصغينا إلى الرجل وهو يترقى في دوره حتى شارف القمة وألهب النفوس بالتشوف واحتداد اللهفة، ونظرت إلى جانبي فما راعني إلا أحد الصاحبين، وقد غلب ضحكاً، وإلا الصاحب الثاني يكاتم الضحك مكاتمة شديدة، وكل ذلك لأن الممثل قد مط الحروف وهو يصرخ ويهيج على نحو يقارب الفرنسية من جهة، والسورية من جهة أخرى، فنسي الأديبان أن الإنسان قد يتألم سورياً وفرنسياً وليس من الضروري أن يتألم مصرياً وقاهرياً وإلا انقلبت الخوالج الآدمية فأصبح الألم مما يضحك والهياج مما يدعو إلى الفكاهة، وحسبا أنني لم أفطن لاختلاف اللهجة كما فطنا. . . فخرجا يتندران بهذه القصة ويزهيان بالفطنة التي رزقاها وحرمتها، والذوق (الدقيق) الذي عداني وما عداهما!
وكان عيد الحرية الثمانية فذهبنا جمعاُ من الإخوان نشهد الحفل الحافل في بعض المسارح المشهورة يومذاك، وكان بين الخطباء ترك وعرب وسوريون. فما أحسب أن رواية هزلية في ذلك المسرح أثارت قط مجانة وضحكاً وسخرية كالتي أثارتها (حماسة) الخطباء والشعراء وذكريات الفجائع والمظالم في أيام الاستبداد. وكان أحد الخطباء مبيناً مفوهاً متدفقاً كأحسن ما يكون الخطيب في لغة من اللغات، إلا أنه ارتضح لهجة غريبة فبطلت محاسنه واحتجبت مزاياه. ولم يكن قصارى الأمر عند أصحابنا أنه يجهل العبارات المصرية والمخارج القاهرية، وإنما كان عندهم جاهلاً بكل شيء يجعل الخطيب خطيباً ويجعل السامعين يستمعون إليه.! فلما قلت لهم: إني أعد الرجل من أقدر من سمعت وأوفاهم بياناً، قام أحدهم يحكيه ويردد عباراته ويمثل إشاراته وحركاته فسقطت الحجة كلها وقطعت جهيزة قول كل خطيب!!. . . وإلا فماذا يبقى من قول القائل الذي يخالف اللهجة القاهرية هذه المخالفة، والذي يستطيع القاهري أن يحكيه ويتماجن عليه؟؟ لا يبقى بالبداهة شيء
ويؤمن العامة إيماناً عجيباً بملازمة الأشياء لصورها وأسمائها وعاداتها التي ألفوها حتى لا يجوز أن تقع التفرقة بينها بنحو من الأنحاء
سألت أحدهم مرة: ما اسمك؟ فأخفى اسمه الصحيح وقال لي إن اسمه (علي) وهو في الحقيقة يسمى إدريس، وكأنه امتحن ذكائي بهذه الأكذوبة وظن أنني لا أفرق بين الكذب والصدق إذ كان الرجل الذي يسمى (إدريس) تلزمه هذه التسمية لزوماً لا فكاك منه ولا