كان النبي صلى الله عليه وسلم على ما يصف التاريخ من الفقر والقلة، ولكنه كان بطبيعته فوق الاستغناء، فهو فقير لا يجوز أن يوصف بالفقر ولا تناله المعاني النفسية التي تعلو بعَرَضٍ من الدنيا وتنزل بعرض، فما كانت به خَلّة تحدث هدما في الحياة فيرممها المال، ولا كان يتحرك في سعى ينفق فيه من نفسه الكبيرة ليجمع من الدنيا، ولا كان يتقلب بين البعيد والقريب من طمع أدرك أو طمع أخفق، ولا نظر لنفسه في الحسبة والتدبير لتدرّ معيشته فيحتلها ذهباً أو فضة، ولا استقر في قلبه العظيم ما يجعل للدينار معنى الدينار ولا للدرهم معنى الدرهم؛ فان المعنى الحيّ لهذا المال هو إظهار النفس رابية متجسمة في صورة تكبر على قدر من السعة والغنى؛ والمعنى الحي للفقر من المال هو إبراز النفس ضئيلة منزوية في صورة تصغر على قدر من الضيق والعُسرة.
إن فقرهُ صلى الله عليه وسلم كان من أنه يتَّسع في الكون لا في المال، فهو فقر يعد من معجزاته الكبرى التي لم يتنبه إليها أحد إلى الآن، وهو خاص به، ومن أين تدبّرته رأيته في حقيقته معجزة تواضعت وغيّرت اسمها. معجرة فيها الحقائق النفسية والاجتماعية الكبرى، وقد سبقت زمنها بأربعة عشر قرناً، وهي اليوم تثبت بالبرهان معنى قوله صلى الله وسلم في صفة نفسه (إنما أنا رحمةٌ مُهْدَاة)
نحن في عصر تكاد الفضيلة الإنسانية فيه تلحق بالألفاظ التاريخية التي تدل على ما كان قديما. . بل عادت كلمة من كلمات الشعر تراد لتحريك النسيم اللغوي الراكد في الخيال، كما تقول: السحاب الأزرق، والفجر الأبيض، والشفق الأحمر، والتَّطاريف الوردية على ذيل الشمس؛ وأصبح الناس ينظر أكثرهم إلى أكثرهم بأعين فيها معنى وحشيّ لو لمس لضرب أو طعن أو ذبح؛ وعملت المدنية أعمالها فلم تزد على أن أخرجت الشكل الشعري لإنسانها الغني ترفا ونعمة وافتناناً بين ذلك، من أيسر الحلال إلى الفظيع المتفاحش في الاباحة، فكأنما وضعت المدنية عقلاً في وحش، فزاغت فيه الطبيعة من ناحيتين؛ ثم قابلته بالشكل الوحشي لإنسانها الفقير، فكأنما نزعت عقلاً من إنسان، فضلت فيه الطبيعة من