للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الخمرة النصرانية ومجالسها في العصر العباسي]

للأستاذ شكري محمود أحمد

اشتهرت الخمرة النصرانية بالجودة والقدم، كما عرفت برائحتها الذكية وطعمها اللاذع، فتغنى الشعراء بذكرها، وفتنوا بنعتها، فوصفوا الكأس والنديم والنقل والزهر والتحايا والصبوح والغبوق وكل ما يتعلق بمجلسها من عزف ونزف وغناء وقيان وسقاة وتهتك ومجون، وما يتبع ذلك من حوادث مشهورة، وأخبار مذكورة وقصائد طريفة ونعوت جميلة حفلت به كتب الأدب والسير والشعر.

وقد نعتت الخمرة بالقدم، فهي تذكر نوحاً حين شاد الفلك، بل هي ترب الدهر في قدمها، عاشت معه، ودرجت في حجره، حتى لو أنها احتبت بين الندامى لقصت عليهم قصة الأمم، وروت لهم حوادث التاريخ. . . وهي عجوز قد علت على الحقب حتى عكفت عليها بنات الدهر، وعجمت الغير حتى اختمرت بخمار الشيب وهي في رحم الكرم. . . ثم هي شقية النفس تنفي الهم وتذهب الحزن فتجعل السقيم صحيحاً، والقبيح جميلاً، والصغير كبيراً. . .

وربما عبدها بعضهم، فأثنى عليها بآلائها، وسماها أحسن أسمائها، ونزهها عن الغر الفدم الذي لا يعرف لها قدره، وخص بها السادة الكرام من كل مطير الكف يطرب للندى. . .

وكانت الخمرة عندهم لذة العمر وغاية الغايات، لا تطيب لهم الحياة إلا بها، ولا يصفو الكأس إلا بين كأس وعود وقينة. . . وقد رضي أبو نواس من الدنيا بكأس وشادن. . وكان الغنم عنده أن يتعتعه السكر، والغرم أن يلفي صاحياً. . بل تمنى بعضهم سكرة شيطانية قبل موته تترك الصبيان خلفه يتصايحون: يا سكران. ثم يغسل بالخمر، ويكفن بأوراق الكرم، ويدفن بعد ذلك إلى جنب كرمة لتروي عروقها عظامه، وتجعل أقداح الخمر حول قبره. .

عرف النصارى بتعتيق الخمر، كما عرفوا بنظافة الآلة وجودة الشراب، وجمال الحانات، وتزيين مجالسها بأصناف الزهر والنقل، ووصفوا بحسن الخلق ولين الجانب، ولطف المساومة وصباحة الوجوه وجمال القسمات، لذلك كان الشعراء والهجان وأهل التهتك والتطرح يقصدون الأديار في الليل والنهار، ويختلطون بالرهبان والراهبات وفتيان

<<  <  ج:
ص:  >  >>