إلى ذلك الحين سلخ الحاكم زهاء خمسة عشر عاماً في الحكم؛ وكانت فترة تحمل طابع الاضطراب والعنف والمفاجأة بما تخللها من غريب الأحكام والتطورات التي أتينا على ذكرها. . ولكن الحوادث تدخل من ذلك الحين في طور آخر، ويميل العهد إلى نوع من الهدوء، ويتجه الحاكم وجهة أخرى. كان ذلك الذهن المضطرم الهائم معاً لا يسكن إلى ركود الحياة العادية، وكان دائماً يؤثر التوغل في عوالم الحياة الروحية. وكانت أعوام العصر الأخيرة مليئة بهذه التيارات الخفية التي تحجب عنا أغوارها ريب وظلمات كثيفة. كانت مصر في هذه الأعوام مهداً خصباً لعصبة من الدعاة المغامرين الذين هبطوا إليها يبشرون بأديان وعقائد جديدة؛ وكان الحاكم من وراء هذه الدعوات يرعاها ويرقب تطوراتها حتى استحالت في أواخر عهده إلى دعوة جريئة إلى (ألوهيته)، ونعت الحاكم عندئذ بقائم الزمان وناطق النطقاء. وقد سبق أن فصلنا عناصر هذه الحوادث والدعوات في (الرسالة) في بحثنا (الدعوة الفاطمية السرية) فلا نعود إليها هنا
وكانت خاتمة الحاكم، كحياته، خفية مدهشة؛ فقد أغاض من هذا العالم وزهق في ظروف غامضة مازالت على التاريخ سراً عسير الجلاء
وهنا نحاول، بعد استعرضنا أعمال الحاكم بأمر الله وغريب أحكامه وتصرفاته، أن نعرض إلى أدق وأصعب نقطة في دراسة هذه الشخصية العجيبة
ماذا كانت حقيقة هذه الشخصية التي جمعت بين خلال وصفات يحمل أكثرها طابع العنف والشذوذ والتناقض؟ وبأي عين يجب أن ننظر إليها، وبأي معيار نستطيع أن نقدر صفاتها وأعمالها؟ وأي أحكام يسوغ لنا أن نصدرها لها أو عليها؟
لدينا في ذلك مادة منوعة: أقوال الرواية الإسلامية المعاصرة والمتأخرة، وحوادث العصر،