للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وأعمال الحاكم وتصرفاته ذاتها. فأما الرواية الإسلامية، فلا ترى في أمر الحاكم لغزاً يصعب استجلاؤه؛ ولنلاحظأولاًأن ما انتهى إلينا من أقوال الرواية الإسلامية، إنما هو في الغالب أقوال المؤرخين السنيين، خصوم الشيعة وخصوم الدولة الفاطمية، وإننا لم نلتق من تراث الشيعة الذي بددته الحوادث والدول الخصيمة ما يلقي ضياء كافياً على ذلك الخفاء الذي يحيط بشخصية الحاكم وأعماله. والحقيقة أن الرواية الإسلامية تأخذ بظواهر الحوادث المادية، وتكتفي بأن تقدم إلينا الحاكم في تلك الصور المروعة المثيرة التي أشرنا إليها؛ وقلما تحاول أن نلتمس في ما وراء ذلك شيئا من البواعث والأسباب التي يمكن أن نعلل بها بعض نزعات الحاكم وتصرفاته العجيبة. وقد أوردنا بعض أقوال الرواية الإسلامية في وصف الحاكم؛ فهي لا ترى فيه أكثر من أمير مضطرب العقل والتفكير، عنيف الأهواء والنزعات، كثير العبث والسفك، شديد التناقض، لا يصدر عن رؤية أو منطق متزن، ولا يتحرى غاية أو مثلاً معقولة. هذه هي الصورة العامة التي يقدمها إلينا المؤرخون المسلمون عن الحاكم؛ وهي صورة بسيطة ساذجة مستمدة من ظاهر الحوادث المادية؛ فقد كان الحاكم طاغية شديد البطش والسفك، ولكنه كان يتخذ السفك وسيلة لا غاية، وكان القتل في نظره خطة سياسية؛ وكان عنيف الأهواء والنزعات، ولكنها لم تكن نزعات شهوة نفسية، وإنما نزعات ذهن يرتفع عن الوسائل العادية لتوجيه مجتمع يراه جديراً بالتغيير والتطور؛ وكان متناقضاً في كثير من تصرفاته، ولكن تناقض الذهن الذي يحاول مختلف الوسائل والتجارب لتحقيق غايات معينة. ومع ذلك فإنه لم يفت بعض المؤرخين أن يلاحظ أن عقلية الحاكم لم تكن بتلك البساطة التي تصور بها، فقد وصفه الذهبي بأنه كان (خبيثاً، ماكراً، ورديء الاعتقاد)، وهي صفات ليست من خواص الذهن المضطرب السقيم الذي يفكر دون تدبر ويعمل دون غاية

والواقع أن الحاكم بأمر الله كان عقلية مدهشة، وكان لغزا عسير الفهم؛ وإذا كان قد أشكل على المؤرخين المسلمين من معاصرين ومتأخرين فلم يحاولوا فهمه، فإنه مازال أيضاً في بعض نواحيه لغزا على عصرنا، وإن كنا نستطيع أن نحاول فهمه من بعض النواحي، وتعليل كثير من أعماله وأحكامه. ويصفه العلامة الألماني ميللر بأنه (من أعجب وأغمض الشخصيات التي عرفها التاريخ)؛ ويقول: (إن من يقرأ ما أورده المؤرخون المتأخرون من

<<  <  ج:
ص:  >  >>