تهيأ للبحث التاريخي أن يهتدي لمولد كثير من العلوم، وأن يتعرف على واضعيها؛ فهو يعين أول من تكلم في النحو، ويؤكد أن الخليل بن أحمد الفراهيدي هو واضع علم العروض، وأن أبا معاذ الهراء أول من أفرد الصرف بالتأليف. . . وهكذا. ولكن أصحاب تاريخ العلوم لا يتفقون على رأي في واضع علوم البلاغة، ولعل منشأ ذلك كثرة الكاتبين فيها في أزمة متطاولة، كما أن تأخر التقعيد فيها وظهورها أول الأمر في مظهر النقد الأدبي جعل الأنظار تتجه وجهات مختلفة، وسنقدم بين يدي بحثنا كلمة عن نشأتها: -
تكاد تتفق كلمة العلماء على أن القول في البيان كان مبكراً؛ فالخليل المتوفى سنة ١٧٠هـ تحدث عن الاستعمال المجازي والجناس والمطابقة، وتلميذه سيبويه المتوفى سنة ١٧٧هـ تكلم عن التقديم والتأخير ومجاز الحذف؛ ثم استفاضت هذه البحوث فيما كتبه الجاحظ (٢٥٥) وأبو هلال (٣٩٥) وابن رشيق (٤٤٧) فكتبوا كتابات ذات بال ولكنها كانت مختلطة بالمباحث الأدبية. فلما جاء عبد القاهر الجرجاني (٤٧٤) وضع كتابين (أسرار البلاغة) و (دائل الإعجاز) وتحدث في الأول بإفاضة عن مباحث علم البيان، ومال قليلاً إلى بعض مباحث البديع، وخص الثاني بمباحث علم المعاني. وهذان الكتابان من أحسن ما كتب في هذين العلمين إلى يوم الناس هذا؛ فشواهدهما كثيرة، وأسلوبهما من أقوى الأساليب وأنصعها، وفيهما ميل واضح إلى التقعيد والتقنين. ونستطيع أن نقول أن مباحث العلوم الثلاثة قد تميزت بعد عبد القاهر، فابن المعتز (٢٩٦) ألف كتاباً في البديع ذكر فيه سبعة عشر نوعاً منها مباحث علم البيان، وأبو هلال ذكر خمسة وثلاثين نوعاً من البديع وبذلك أصبح لهذا العلم كيان مستقل، وأما البيان فقد أفاض فيه عبد القاهر فكان صاحبه، وكذلك علم المعاني إذا أضفنا ما كتبه العسكري، ولو أن علوم البلاغة وصلت إلينا على الحال التي كانت عليها في عهد عبد القاهر لكانت ذات غناء وجدوى، ولكنها منيت بالقيود والأغلال فظلت سجينة فيها حقباً طوالاً، وكان ذلك على يد العالم الجليل أبي يعقوب يوسف بن أبي بكر بن محمد السكاكي المتوفى سنة ٦٢٦هـ فوضع كتابه (مفتاح العلوم)