كل نبوَّة كانت ثورة. ومن أخص ما ميز ثورات النبوات أنها كانت للسلام العام والصلاح المطلق. فلا تجد نبينا دعا إلى عرض الدنيا، ولا رسولا سعى إلى سلطان الحكم. إنما كان الأنبياء والمرسلون جند الله، يعملون بوحيه، ويهتدون بهديه. عقيدتهم الحق، ودعوتهم الصدق، وعدَّتهم الصبر، ووجهتم الخير، وطريقتهم التضحية. فلما ختم الله رسالاتهم برسالة محمد كتب على نفسه الرحمة أن يرسل إلى الناس في كل حقبة مصلحا يؤدبه بأدب الأنبياء، ويجريه على منهاج الرسل، ليجدد ما درس من نهده، ويبيّن ما طمس من طريقه. وشأنه سبحانه في إعداد المصلحين كشأنه تعالى في إعداد النبيين، يصنعهم على عينه، ويطبعهم على دينه، حتى إذا ضعف سلطان العقل، واختل ميزان العدل، وعميت على الناي وجود الرشْد، أظهر هذا المصلح من بين رجال السيف في أكثر الحالات، لأنهم بحكم تنشئتهم أصحاب فداء ومضاء، وألاّ ف نظام وعمل، وأحلاف شرف مجد. يطلبون الحياة بالموت، ويرحضون الرجس بالدم، ويقرنون الرأي بالعزيمة. ولم تجتمع هذه الصفات لأحد قبل اللواء محمد نجيب وصحبه. وسر ذلك أنهم نشئوا في طبقة الفلاحين الكادحين فعرفوا كيف يكون الحرمان، وعملوا تحت إمرة المستكبرين المستهترين فعلموا كيف يكون الطغيان، وأضاءت قلوبهم النقية إشراقة من نور الله، فرأوا من تحت الظلام الكثيف المخيف عرش مصر يرتطم في الذر، وجيش مصر يضطرب في الفساد، وشعب مصر يتمرغ في الذل، فشبوا شبوب النار الهادئة تقتل المكروب ولا تحرق المريض، وهبُّوا هبوب الريح اللينة تدفع الشراع ولا تغرق المركب. ثم عالجوا أمر هذه الأمة بعلاج الرسول الكريم، فحطموا الأوثان كما حطم، وكرموا الإنسان كما كم، وأزالوا الفروق بين الناس كما أزال، وأدالوا الفقير من الغني كما أدال، وقيدوا الحق بالواجب كما قيد، وأيدوا الحجة بالسيف كما أيد. ثم أذاقوا الناس لأول مرة في تاريخ مصر نعمة الحرية والكرامة والمساواة، ثم ظلوا كما كانوا قانعين متواضعين، يظهرون في المجامع من غير أبهة، ويمشون في الشوارع من غير حرس، ويختلطون بالسواد من غير حرج. ثم لا يمدون أعينهم إلى نعيم، ولا يبسطون أيديهم إلى ثراء. فهل يجوز بعد أولئك كله أن يعيدونا إلى ثرثرة الأحزاب وسمسرة النواب ومهزلة الزعامة؟
لا يا سيد محمد نجيب! إن الله جعل في يديك أمانة هذه الأمة فلا تلق