للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الواشي والوشاية]

للأستاذ عبد الرحمن شكري

أيهما أعظم أثراً ونصيباً في إذاعة الوشايات؟ ميل النفس إلى أن تشي بغيرها، أم ميلها إلى أن تقبل الوشاية في حق غيرها؟ هذه مسألة لا نحسب أنه من المستطاع توضيحها على قاعدة واحدة تصدق في كل النفوس على السواء على اختلاف صفاتها من مكر وسذاجة ومن فطنة وغباء ومن خير وشر. على أن الميلين يتصلان في النفس ويتشعبان من شعبة واحدة وهي الأثرة، وما تثير من رغبة في منفعة أو خوف من مضرة، وإن كانت الرغبة في المنفعة ألصق بالواشي، وكان الخوف من المضرة ألصق بقابل الوشاية. على أن هناك أمراً لا شك فيه وهو أنَّ تَنَوُّعَ أساليب الواشي في الوشاية وتهيئتها تهيئة خاصة كي تكون مقبولة في النفوس المختلفة مما يجعل رد الوشاية ورفضها من أشق الأمور. ولا بد من التأثر بها إما قليلاً وإما كثيراً حتى في حالة رفضها وحتى في حالة كره الواشي وقلة الثقة به، وحتى في حالة معرفة كذبه. وإذا استطاع المرء أن يقاوم أثر الوشاية ألف مرة فهو قد لا يستطيع مقاومته مرة بعد الألف. ومن أجل ذلك ترى الرجل العادل الذي كَفَّ نفسه عن الشر يندفع إلى الشر بسبب وشاية واش بعد طول العصمة ويأخذ بالوشاية بعد رفض أمثالها مراراً فيتعجب الرائي المفكر من فجاءات الحياة والنفوس في أمثال هذه الأحوال الغريبة المباغتة. وإذا كان هذا شأن العادل المتحرج من عمل الشر ومن قبول القول من غير بَيِّنة أو دليل، فما ظنك بأكثر الناس وهم يقبلون القول قبل الإطلاع على البينة، وقبل فحص الدليل والتأكد من صحته، ومنهم من يلتقط القول التقاطاً من فم قائله وكأنما ينتزع الوشاية انتزاعاً من بين ثناياه، وكأنما يخشون ألا يخرج القول كله من فمه فيسعفوه بالمسهلات والمقيئات. وأكثر من هذا وذاك أنهم يأخذون بالظنة من غير حاجة إلى وشاية ونميمة؛ فقد يُحيِّي إنسان إنساناً آخر ولا يرد الثاني التحية لخطأ البصر أو بطئه في تبين الأشخاص، أو لانشغال ذهنه أو عينه، أو لسرعة انتقال الأول وفوات الفرصة لرد التحية، فيحسب الإنسان الأول أن الثاني تعمد الإساءة إليه مع عرفانه بسابق إعزازه له ومودته وإكرامه. وقد زاد أبو تمام في هذا المعنى ووضحه فقال:

يَظَلُّ عليك أصفحُهمْ حقوداً ... لِرُؤيا إنْ رآها في المنام

<<  <  ج:
ص:  >  >>