للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[صور من الحياة:]

قبعة تتزوج

للأستاذ كامل محمود حبيب

أما قصة زواجك أنت - يا صاحب القبعة - فهي عجب من العجب، قصة فيها سلوى للنفس وعظة للعقل ومتعة للقلب.

أتذكر يوم إن جئت، أيها الفيلسوف، من البلد الأجنبي - بعد أن نيفت على الأربعين - وإن رأسك ليزدحم بالخواطر والخرافات، وإن قلبك ليجيش بالآمال والأماني، وإن فلسفتك لتتحدث إليك بأمر.

ونظرت حواليك فتراءيت في عين نفسك عزباً تضطرب في الحياة وحيداً منبوذاً، والأيام تنطوي بسرعة في سرعة لتدفعك نحو الشيخوخة في غير هوادة ولا لين، وأنت تفتقد العطف والحنان فلا تستشعر الهدوء في الدار ولا الاستقرار في العمل، وإن وظيفتك لتدر عليك ما يفيض على حاجات نفسك ورغبات قلبك، وضقت بحياة القلق والاضطراب فعقدت النية على أن تتزوج.

وسيطرت عليك الفكرة فشغلت قلبك وعقلك، واستولت على مشاعرك فأرقت جفنيك وأزعجتك عن مرقدك، وبدا عليك الوجوم والصمت لأنك انطويت على نفسك زماناً ففقدت الأهل والصاحب والصديق فأغلق أمامك السبيل إلى الزوجة. ثم وجدت متنفساً حين جلست إلى زميل لك تحدثه حديثك وتقول: (إنني اشعر - دائماً - بالضياع والشقاء، فالأعزب رجل مقطوع الصلات مجذوذ العلائق، يجد الهم والأسى في داره، ويحس الضيق والملل في خلوته، ويلمس الضنى والعذاب في وحدته، تتراءى له - دائماً - أخيلة مفزعة تزعجه عن الدار، وتصرفه عن العمل وتملأ ذهنه بالخرافات، وتحطم أعصابه بالقلق، لا تهدأ له ولا يقر له قرار، وهو يرى نفسه لقيً في ناحية من حجرة، هملاً بين همل من الأدوات والأثاث والملابس. فإن أبق الخادم طار صوابه، وتناثرت خواطره، وتشعثت حاجاته، رغم أنه يثق بأن الخادم رجل يسرق ماله ويستلبه من وقته ويزعجه عن راحته، وهو هم لا يدفع إلا بهم آخر. وإن مرض انحط في فراشه ليكون بقايا إنسان قذر تافه تنطوي الساعات وإن نفسه لتئن أنينا رهيباً، وإن قلبه ليبكي بكاء مراً: لهذا - يا صاحبي - فأنا أشعر -

<<  <  ج:
ص:  >  >>