علمت الشجرة المثمرة، يا ألهي، أن تعلن عن نضوج الفاكهة التي تحملها أفنانها بين الأوراق الخضر، بمعان من الألوان، وكلمات من الأريج.
وكسوت الورود والرياحين الغلائل المصبغة بألوان الشفق والفجر وقوس السحاب، وجعلت لها ألسنة من العبير، تهمس بها الأنسام في أذن الفراشات الراقصة في عرس الطبيعة ومواكب الربيع
وألبست الروابي، والوهاد، والمروج، الحلل السندسية الخضر الموشاة بالألوان التي لا تحصى من الأزاهير؛ تطل من ورائها الأسرار المتوارية وراء لسان الطبيعة الأبكم، ونواميسها الأبدية الثابتة؛ فراحت الأجناس من كل ما يدب على هذا البساط الأخضر ويتحرك، مدفوعة نحو أجناسها، في جنون من العاطفة المشبوبة والحس المخدر، إلى حيث تدري أو لا تدري، فوق ألسنة من لهيب يحرق ولا يميت، ووراء الصوت المدوي في الأعماق، والجوع الذي لا تشبعه النظرات، والظمأ الذي لا يصل إليه الارتواء أبدا.
وجعلت لقلب المرأة لسانين فصيحين بارزين في أجمل مكان من صدرها؛ يصرخان في ظمأ قاتل، ويبحثان في جهد لا يلغه النصب عن طيف الحبيب المجهول؛ بمعان من كبرياء الجمال، وألفاظ من دلال الحسن، وتعابير من اهتزاز ساحر عنيف وراء الغلائل الشفافة التي تكبح جماحهما، كما تكبح اللجم الجياد، فيتراءى من خلفها جمال الربيع الدائم ومعانيه.
سبحانك يا إلهي! لقد أشعت في الطبيعة الجمال البكر الفاتن؛ يتجدد ولا يفنى؛ واختصرت هذا الجمال الأبدي البديع في أروع ما صنعت يداك؛ فخلقت المرأة وجعلتها الرمز الخالد لأسرار الطبيعة وجمالها، وجلالها، وجبروتها، وفتنتها، فكانت المعجزة السرمدية الأولى والأخيرة التي شاءت قدرتك أن تكون صورة مصغرة لأروع ما في الوجود؛ جعلت الظلام الحالك شعرها حينا، وذهب الأصيل حينا آخر، والنور المشرق وجهها، والبانة قوامها، وعبير الأزاهير أنفاسها، وحمرة الشفق وجنتها، واللؤلؤ ثناياها، وأوراق الورود شفتيها، ثم اختصرت كل هذا الجمال العبقري المركز لتصنع به عينيها؛ فتدافعت بالمناكب وراءهما أطياف مجنحة من الماضي والمستقبل ونواميس الطبيعة وأسرار الغيب وجمال الوجود.