كاد الأدباء الناشئون في مصر وفي غير مصر ينصرفون عن الإنشاء إلى النقد. وأريد بالنقد هنا معناه العامي أو مدلوله الأعم؛ فأن النقد المنطقي بمعناه الأخص إنما هو ملكة فنية أصيلة، وتربية أدبية طويلة، وثقافية علمية شاملة. والناقد بهذا الاعتبار يشارك المشترع في صدق التميز، والفيلسوف في دقة الملاحظة، والقاضي في قوة الحكم. ومن ثم كان نوابغ النقد في العالم أندر من نوابغ الشعر والكتابة. وهذا الذي تقرأه في الصحف العربية من حين إلى حين لا يدخل في هذا الباب إلا كما يدخل المجون في نطاق الجد أو العبث في سياق المنطق؛ كالرجل يقعد به العجز عن اللحاق بالقادرين، فيقف نفسه موقف القائد الحصيف، يلمز هذا، ويتنادر على ذاك، ويزعم أنه وحده المسيطر على ثمرات الذهن، فيحكم بذوقه الخاص على هذه بالقبح، وعلى تلك بالفجاجة؛ وأمره كله لا يخرج عن مألوف الطباع الساخرة الفكهة: تصور الحق بلون الباطل لتُضحك، وتبرز الجميل في مظهر القبيح لتُسئ. وعيب الناس طبيعة في بعض الناس، لا يكلفهم إلا تحريك اللسان إذا لقوا سامعاً، أو تجرير القلم إذا وجدوا صحيفة
هذا طالب في ثانويات القاهرة يملي خطة في الكتابة على الجامعة؛ وذاك معلم في ابتدائيات بيروت يلقي درساً في الصحافة على القاهرة؛ وذلك صحفي في مطارح الهجرة يقضي بالموت على الأدب العربي كله!
علام اعتمدت يا بني في إنشاء خطتك؟ وإْلام يا أخيَّ في إعداد درسك؟ ومم اتخذت يا زميلي أسباب حكمك؟ وهل تظفر من هؤلاء بجواب ما دمت في الزمن الذي ترى فيه الناظم ينظم ولا يعلم العروض، والكاتب يكتب ولا يدرس النحو، والمجادل يجادل ولا يفقه الأصول؟ إنها فوضى تتولد في عصور الانتقال وتفشو في ابتداء اليقظة، حين لا يسكن أمر إلى قرار، ولا يطمئن نظام على وجه، ولا يخلص رأى من حيرة، ولا يصدر حكم عن اختصاص!
إن هذا الضرب من النقد إما أن ينبعث من مكامن الحقد فيرمى إلى التجريح، وإما أن ينطلق من مواضع الغرور فيسعى إلى الهدم. كان منذ قريب يعمد إلى الكتاب القيم في الفلسفة أو التاريخ أو القانون قد ألفه مؤلفه من دمه وعصبه وعقله وعمره وماله، فيقف منه موقف الحاسد الأحمق ينقد في بعض صفحاته فعلا تعدى بغير حرفه، أو اسماً جمع على